الدولة العباسية بين القوة والضعف والإستقواء
ج1
بقلم/ الكاتب محمّد العراقي
لقد مرّت الدولة العباسية العربية الإسلامية كأي حضارة بمراحل قوة وضعف وما بينهما خصوصا وقد سارت على مبدأ التوريث للحكم ولم تتخذ من مبدأ الشورى الإسلامي بموجب الشريعة والذي اعتمدته دولة الإسلام الأولى مبدأ لها في حقبها المتوالية وسنقسم الخط البياني لسير تلك الحضارة إلى ثلاث مراحل
المرحلة الأولى/ هي حقبة العصر العباسي الأول وهي تجسد القوة والهيبة واستمرار الفتوحات والازدهار السريع وقد استمرت بذلك حتى دبّت الصراعات على الحكم جراء اقتران بعض الخلفاء من بني العباس بالنساء غير العربيات ومؤداه في المفاضلة بين الأمراء عند تسميتهم لتولي الخلافة
المرحلة الثانية/ هي حقبة العصر العباسي الثاني وهي تمثل تراجع القوة وتوقف الفتوحات والانشغال بتحكيم الثغور وفض النزاعات الداخلية للأمصار وإخماد الفتن وبدء الصراعات والدسائس بين الأمراء ومن وراءهم على الخلافة كصراع الأمين والمأمون على الخلافة
المرحلة الثالثة/ فهي تقسم إلى مرحلتين بحسب مجريات أحداثها وسير التداخلات الخارجية وتغير موقع عاصمة الدولة اثر بدء وتعاظم تلك التداخلات والتي شهدت بنهاية مرحلتها الثانية سقوط وزوال تلك الحضارة
الأولى/ هي مرحلة الانتقال إلى سامراء وأسباب ذلك التي تؤشر على بدء تعاظم استقواء العنصر التركي الذي اعتمده الخليفة المعتصم وقد ابتدأ ذلك العنصر أولا بتطبيق أجندته الهدامة بالتدخل في شؤون الجيش العربي العباسي بإقصاء قادة الجيش من العرب والتآمر عليهم وقتلهم ليضعف دورهم في الجيش للتهيؤ للتداخل السياسي عندما تحين الفرصة لذلك بقدوم خلفاء ضعفاء وقد حصل المراد بعدما تم التآمر لقتل الخليفة المتوكل ونهايته المأساوية وهي تمثل نهاية العصر العباسي الثاني (وقد كتبنا في ذلك بحثا خاصا)
الثانية/ وهي تمثل بداية العصر العباسي الأخير وهي التي تجسد تدهور وتفاقم مراحل ضعف تلك الدولة بالتدريج إذ ابتدأت بتحكم الأتراك التام بشؤون إدارة الدولة في مطلعها حتى أتى الصراع بينهم وبين آل بويه من الأعاجم في نهاياتها وتحكم هؤلاء أيضا بشؤون تلك الدولة التي بقيت تعيش الصراعات بين ذينك الطرفين حتى لم يبقى في بعض المراحل للخلفاء إلا الاسم أحيانا وسنتناول هنا تقييم سير بعض خلفائها وسياساتهم وابرز الأحداث فيها إلى جانب مجريات الأحداث التي جسدت تلك التداعيات في هذا الموضع فهي حقبة الضعف والإستقواء بقوى خارجية من غير العرب والاعتماد على أبناءها كقادة وجند في جيش الدولة النظامي وكذلك السماح بتداخل بعض تلك العناصر الخارجية في سياسة تلك الدولة بشكل مباشر في بعض المراحل والذي وصل حد عزل الخلفاء أو توليتهم أو حتى قتلهم كما حدث غير ذي مرة في عاصمة بني العباس الجديدة سامراء ولأجل إسقاط الضوء على تلك المرحلة سنتناول سير سياسة الدولة من عهد الخليفة المعتمد حتى آخر خلفاء بني العباس المستعصم مجريات الإحداث بين عهدي المعتمد والمعتضد
==========================
وهي التي تشكل اكبر علائم التدهور السياسي وانتقال السلطة في باطنها بأيدي قادة الأتراك في الجيشففي عام 235 ه وفي عاصمة الدولة العباسية سامراء كان المتوكل قد ولّىالعهد بين أولاده كما فعل من قبله خلفاء بني العباس حيث ولى محمداً وسمّاهبالمنتصر وأبا عبد الله بن قبيحة وسماه بالمعتزّ وإبراهيم وسماه المؤيّد على إن المتوكلرأى أن يقدم ابنه المعتز على أخويه المنتصر والمؤيد لمحبته لوالدته قبيحة كما توردصفحات التاريخ حول موضوع خطبة الخليفةالمتوكل في شهر رمضان وما جرى في تلك الحادثة وتداخلاتها والتي كتبنا عنها في المنتدى تحت عنوان (من تآمر على الخليفة المتوكل) عندما خرج للصلاة بالناس بدلا من الأمير المنتصر والذي كان من المعلن أن يؤم الناس في ذلك اليوم وان الأمير قد غضب لذلك الأمركثيرا واعتبره ضده خصوصا وقد جرى معه مرتان فعزم على تدبير موآمرة مع قادة الأتراك لاغتيال أبيهالخليفة المتوكل ولا غرو فقد حاول بعض الأتراك من الملتفين حول المنتصر قتل المتوكلبدمشق ولكنهم أخفقوا في تدبيرهم بفضل القائد بغا الكبير والفتح بن خاقان وهنا ذكرالمسعودي فقد كان الأتراك قد رأوا إنهم يقتلون المتوكل بدمشق فلم يمكنهم فيه منحيلة بسبب بغا الكبير فهو من حال بينه وبينهم لذا قام أولئك بتدبير مكيدة جديدة سنعيد كتابتهاحين طرحوا في مضارب المتوكل رقاعا يقولون فيها إن بغا قد دبر ليقتل أمير المؤمنينوالعلامة في ذلك أن يركب في يوم كذا في خيل وجماعة من الغلمان العجم ليفتكون بهبينما كتبوا رقعة أخرى ورموها في مضرب بغا تقول إن جماعة من الغلمان والأتراك قدعزما على الغدر بالخليفة في الموعد نفسه لتتم المكيدة, فقرأ المتوكل كغيرهالرقاع ووقع في نفسه كثيرا وقد نجحت المكيدة التي خططها أولئك فدخل في قلبه من ذلكالقائد غيظا كثيرا وقد شكا ذلك إلى الفتح وقال له في أمر بغا وشاوره في أمره وهناقال له الفتح يا أمير المؤمنين إن من كتب الرقاع قد جعل للأمر دلالة في وقت معينفانا أرى أن تمسك ذلك لنتبين الدليل وعندها نظرنا كيف يفعل وان بطل ما كتب فالحمدلله
ولما أتى الموعد وخرج القائد لتدراكالأمر الذي عرفه من الرقعة التي رميت إليه تأكد الخليفة مما قراه بالرقاع فغضبالخليفة وامسك عن الماء والطعام في قصره إلى المساء وبغا قائم يحرسه لخوفه عليهولكنه يظن العكس بموجب ما صور إليه ولم يعلم الطرفين إن الحيلة التي دبرها المواليقد سرت عليهما معا وفي الصباح أمر المتوكل أن يخلف بغا إلى الشام وان يسافر من فورهوامتثل وغادر إلى الشام تاركا الساحة لأولئك وهو حيران لكن ما عساه أن يفعل وقد كانالذي تآمر عليهما هم بغا الصغير مع باغر وغيرهم وهنا قال المسعودي انه لما اقبلالمساء ومضت ثلاث ساعات من الليل اقبل داغر ومعه عشرة أنفار من الأتراك وهم ملثمونوالسيوف تلمع في أيديهم على ضوء شموع القصر فهجموا على مجلسه الخليفة وقام داغروآخر من الأتراك معه بالصعود على سريره فقام إليهم الفتح لينجد الخليفة وقد صاح بهمويلكم انه مولاكم وانه لم يبقى من المجلس غير الفتح وهو يحاربهم ويمانعهم وقد قالالبحتري فسمعت صيحة المتوكل عندما ضربه باغر بالسيف الذي كان المتوكل قد أهداه إليهعلى جانبه الأيمن إلى خاصرته ثم ثناه على جانبه الأيسر بنفس الحالة وانه لما اقبلالفتح يمانعهم بعج احدهم بطنه بالسيف فأخرجه من متنه وهو صابر لا يتنحى ولا يزولفما رأيت أحدا كان أقوى نفسا ولا أكرم منه فطرح بنفسه على المتوكل فماتا معا ولفافي بساط واحد وطرحا ناحية فلم يزلا كذلك في ليلتهما وعامة نهارهما حتى استقرتالخلافة للمنتصر كما خطط لذلك فأمر بهما ودفنا في سامراء سنة247ه بعد أن أعلن إنالذي قتل المتوكل هو الفتح بن خاقان وان المنتصر كان قد قتله انتقاما لوالده في تلكالدسيسة والمؤامرة المؤسفة التي بها تسلم القاتل مقاليد حكمأباه وبويع له وابتدأ عصر التردي ولم تطول الأيام بالمنتصر اثر ذلك فأتى عهد الخليفة المعتّز بن المتوكل والذي كان كما يصفه صاحب الفخري انه كان شخصا جميلا حسن الصورةولم يكن بسيرته ورأيه وعقله بأس ولكن الأتراك كانوا قد استولوا على مقاليد الأمورمنذ مقتل والده مما اضعف الخلافة حينذاك بحسب ما يذكر المسعودي في مروج الذهب’ وانالمعتز قد عمل على التخلص من نفوذ زعماء الأتراك وقادتهم ومال إلى المغاربةوالفراغنة دونهم في تحول استقوائي جديد مما أغاظهم وكادوا له وكانت إدارة المعتز قدتأخرت في دفع بعض مرتبات قادة الأتراك لظرف خاص فاتخذ الأتراك من ذلك فرصة للخروجعليه فطالبوه برواتبهم فعجز عن دفعها ثم استمهلهم وتوجه إلى أمه قبيحة وكانت غنيةتملك قرابة المليون وثمانمائة ألف درهم ذهب عدا الجواهر من ذهب وحلي وزمرد وياقوتولؤلؤ وغيره من نفائس الأحجار الكريمة فأراد منها أن تمده ببعض المال لإسكات ثورةالعسكر والجند في دولته وجيشه وكان المال الذي يحتاجه هو خمسون ألف فقط ولكنها رفضت وأبتإلى ذلك سبيلا ولم تكتف بذلك بل إنها استنجدت بموسى بن القائد بغا وكانت ثورة الجندقد اشتدت وتفاقمت فقبضوا عليه وقتلوه بزعامة صالح بن وصيف بعد أنادخلوه حجرة واتوا بابن أبي الشوارب وجماعة معه وأشهدوهم على خلعه
تدهور الحالة السياسية للدولة العباسية وتفاقم التداخلات )
بعد أن قتل الخليفة المتوكل أول خلفاء العصر العباسي الثاني وتولى الخلافة ولده المنتصر عندما بايعه القادة الأتراك والذي سرعان ما انقلب عليهم عندما أحس بخطرهم الكبير وبأنهم باتوا يتحكمون بكرسي الخلافة وتحديد من يجلس عليه وإنهم بذلك قد سيطروا على الدولة العباسية فحاول إبعادهم وإشغالهم بالحروب مع الروم والبيزنطيين على الثغور ولم يخف مشاعر حقده عليهم حيث صرح بذلك كثيرا مما جعلهم يفكرون بقتله وتم ذلك بالفعل ولم يدم حكمه أكثر من ستة شهور ولم يكن له من عمل مميز إلا منهجه بمصالحة العلويين إذ أزال ما تركه والده من اثر سيء في نفوسهم وقد قتل في عامه الذي لم يتمه على أيدي قتلة والده وبعد ذلك اجتمع القادة الأتراك ليتشاوروا في تولية من يليه فاجمعوا على إبعاد أولاد المتوكل كيلا يتولى منهم من يثأر لوالده وأخاه بحسب ما ذكره ابن الأثير وبايعوه وله من العمر ثماني وعشرون سنة ولقب بالمستعين إلا إنهم سرعان ما اختلفوا وانقسموا على أنفسهم كفريقين مختلفين بالرأي حول التولية الأول بزعامة باغر التركي قاتل المتوكل والفريق الثاني المؤيد بزعامة القائدين وصيف وبغا وهم الذين قاموا بالخروج من سامراء ليلا واصطحاب الخليفة إلى بغداد ولكنهم فيما بعد اسقط بيديهم فحاولوا استدراج الخليفة بالاعتذار إليه ليعود إلى سامراء غير انه رفض تلبية طلبهم فلما رأى أولئك انه تنكر لهم وعصاهم خلعوه وبايعوا ابن عمه أبى عبد الله بن الخليفة المتوكل ولقب بالمعتز وحدثت بذلك فتنة كبيرة بالبلاد بين بغداد وسامراء ويروي أحداثها احمد بن الحارث اليماني فيقول إنها حرب دامت عدة أشهر وأتعبت كاهل البلاد وحل الغلاء وعظم البلاء إلا إن المعتز في سامراء انتدب أخاه أبى احمد بن المتوكل الملقب بالموفق على حرب المستعين وحدثت أحداث أخرى ذكرها المسعودي حول انهزام المستعين واستجارته وخذلانه حتى انتهى الأمر به معزولا ومبعدا في واسط بعد أن أوكلوا به القائد احمد بن طولون ومن ثم أرادوا منه قتله فرفض ولكنهم عادوا فأرسلوا إليه احد الحجاب مع بعض الجند فقام بقتله وانتهى أمر المستعين وعهده الذي جرت به الكثير من الفتن في الداخل والخارج ولم يتسنى له مباشرة إدارة شؤون خلافته منذ البداية وحتى النهاية وعند تصفيته بقيت الخلافة للمعتز الذي كان ضعيفا وأمره مرهون بيد الأتراك حيث كان يخاف بطشهم وغدرهم وكان لا ينام إلا وسلاحه جواره حتى قتل بتلك الحادثة الشهيرة التي كنا قد كتبنا عنها عندما ثار الجند لعدم استيفاء مرتباتهم وحين رفضت والدته قبيحة مساعدته في دفع المبالغ المترتبة حتى قتل بتلك الصورة البشعة التي وصفها لنا ابن الأثير وانتهى أمره في عام 255ه ثم وليَّ الخلافة أخاه المهتدي وعلى الرغم من كونه ضعيفا وواقع تحت تأثير الأتراك إلا انه كان رجلا صالحا وملتزما وقيل أيضا انه ابن الخليفة الواثق إذ لم يكن من الذين ولاهم المتوكل وسنمر بعجالة على وصف عهده فقد كثرة في خلافته الثورات والفتن ومنها بدايات ثورة الزنج في البحرين تجاه البصرة في بغداد والموصل وطبرستان وغيرها مما امتد إلى الأردن وفلسطين ودمشق وليس ذلك معرض بحثنا فقد كان المهتدي كغيره من سابقيه ألعوبة في يد القادة من الأتراك مع انه فكر بالخلاص مما قد ينتظره في أية لحظة حين حاول استمالة احدهم وهو القائد باكباك ومناه بقيادة الجيش إن هو أقدم على قتل القائد الكبير بغا إلا إن باكباك وشى به وهنا سرعان ما اجتمعت كلمة الأتراك على قتله على اثر قتله بعض الموالي ثم اجتمعوا عليه وأسروه وعذبوه حتى مات فكان مقتله في رجب عام256ه