من الوثائق العثمانية في تاريخ الجزيرة العربية
--------------------------------------------------------------------------------
مثري العاني
تشكل الوثائق العثمانية مصدرا اصيلا من مصادر كتابة التاريخ الحديث في المنطقة العربية عامة وشبه الجزيرة العربية والعراق على نحو خاص ذلك ان العثمانيين قد بسطوا نفوذهم على هذه المناطق زمنا طويلا, على نحو كان له الاثر الكبير في تكوين المقدرات السياسية والاجتماعية للمنطقة. لذا فان الوثائق عماد التاريخ فهو لايستوي قائما على حين يتعهده المؤرخ بالرعاية الا بها. وحين تنعدم الوثائق او يتعذر وجودها فعلى المؤرخ ان يصمت لانه يفقد الدليل الذي يعني على البيان, فالمؤرخ بلا وثيقة في رحاب التاريخ كالقاضي ينظر قضية في محكمة تغيب عنها شهود الدفاع والادعاء.
وعلى الرغم من اهمية الوثيقة التي هي شاهد عيان على طرف من الاحداث التاريخية, الا انها لا تصنع التاريخ فشهود بعض الاطراف لا يمكن اصدار حكم صريح, فالوثيقة هي الكلمة وهي رغم كونها الوحدة الاساسية في كتاب المؤرخ الذي لاتقوم صناعته الا بها، الا انها مع ذلك ليست مفيدة في حد ذاتها حين توضع عشوائيا جوار اخرى. فالكلمات مالم تنظم لا تؤلف جملة مفيدة كما ان الجمل المفيدة في ذاتها لا تصنع كتابا مالم تنسق وفق خطة محكمة بمعرفة ودراية وصولا الى المعنى المنشود.
فالوثيقة الكلمة التي هي مادة المؤرخ تعني القول بان للتاريخ ركنين : مادة تقدمها الوثيقة , وذهن مؤرخ يتناول هذه المادة ويعالجها بوسائله وفق خطة يشيد عليها البناء.
والوثائق رغم ندرتها مقارنة بالاحداث التي تحكي عنها او الاخرى التي وقعت في زمانها دون ان يذكر شيء عنها , اشكال واصناف . فمن الوثائق ما هو مسجل مكتوب ومنها ما هو محفور او منقوش او مصور .
ومن الوثائق ايضا تلك المعالم الاثرية وتلك المباني التي واراها تراب الزمن ومنها كذلك الاحفورة وكل اثر خلفته الطبيعة في البيئة ومنها بطبيعة الحال كل ما تناقلته الالسنة وحفظته صدور الرجال كابرا عن كابر .
فالوثيقة اذا هي كل اثر ورثناه عن الماضي يعين على كتابة التاريخ . ولكن يبقى ان نقول ان الوثيقة لن تكون جديرة بان تحمل هذه الصفة او ان يلصق بها هذا الاسم وانها لن تصبح فاعلة في صناعة التاريخ مالم يعتمدها المؤرخ بعقله وحسه ودرايته , فالنقد الذي يمارسه المؤرخ على كل وثيقة خارجيا او داخليا سلبا ام ايجابا هو الفيصل بين الوثيقة واللاوثيقة .
من الكتب المهمة والجيدة والتي يتبع مؤلفها الاعداد العلمي والاكاديمي بين ايدي المؤرخين والباحثين كتاب (من الوثائق العثمانية في تاريخ الجزيرة العربية) وهو من اعداد الدكتور عبدالعزيز عبدالغني ابراهيم الصادر في مدينة العين الامارات العربية المتحدة بطبعته الاولى عام 2000 والذي يحوي على 493 صفحة من القطع العادي هو من احدث الكتب الصادرة باللغة العربية التي توضح مكانه الوثيقة وأهميتها ومكانتها في كتابة التاريخ وسر أغواره . الكتاب يتحدث عن الوثائق العثمانية في المنطقة الجزيرة العربية والعراق بوجه خاص ويندرج في هذا الباب كل من شبه الجزيرة العربية واليمن ومتصرفية (لواء) عسير والحجاز ونجد والعراق وبغداد كولاية ثم البصرة ومنطقة الخليج بشكل عام .
وتضمن الكتاب انواع الوثائق التي يستعرضها منها داخلية سياسية , داخلية ادارية , داخلية شفرة . داخلية قلم المخصوص . الداخلية المخابرات العامة . محاضر مجلس الوكلاء . الخارجية وقلم مكتوبي التحريات، ارادة مجلس مخصوص، ارادة دخلية، ارادة عسكرية، تصنيف الارادات، ملف المعروضات والرسائل، يلريز متنوع، ادرام بلريز خاصة.
وهذه الوثائق التي تم اختيارها وتصنيفها الى جملة من الموضوعات (الموضحة اعلاه) السياسية والاجتماعية والادارية وتغطي الربع الاخير من القرن التاسع عشر الى أواسط العقد الثاني من القرن العشرين، وبغية التيسير على الباحثين جرى تقسيم المنطقة الى اقاليم جغرافية ادارية جيوسياسية, وحوفظ على التصنيف الذي اعتمد في الارشيف العثماني في استنبول ليسهل الرجوع اليها عند الحاجة.
ولابد من الاشارة الى ان لكل نوع من الوثائق التي سبق ذكرها منهج في النقد العلمي واسلوب معالجة يختلف بعضه عن البعض الاخر. فعدة الاثاري ووسائله غير عدة المؤرخ ووسائله حيث تتنوع هي الاخرى بتنوع اهتمامات المؤرخين فمؤرخ التاريخ القديم تختلف نظرته ومادته ونقده لوثائقها عن مؤرخ التاريخ الوسيط ويختلف الاخير في وسائله وبحدثه في نقد مادته الى حد كبير مع مؤرخ التاريخ الحديث والمعاصر ايضا . اما المؤرخ الذي يتناول التاريخ الثقافي او الاجتماعي. فاساليبه مختلفة تتلاقى وتفترق مع مؤرخ التاريخ السياسي فلكل مجال في تعامله النقدي ولكل منهجه في النقد والتدقيق والتمحيص حتى تصبح الوثيقة بعدئذ موثوقا بها وتصبح ثمة جديرة بحمل اسمها فتدخل بثقة الى مجال صناعة التاريخ .
ولتوضيح ذلك يمكن ان نضيف بان الوثيقة تفصح عن مكنوناتها عند اللقاء الاول هي تلك الوثيقة الرسمية التي تخلو من المشاعر والاحاسيس فهي تتشكل في العادة من الاوراق الرسمية , والمكاتبات الحكومية وفواتير الحسابات وتقارير البعثات الدبلوماسية وغير ذلك من المعاملات التي تجري بين الرؤساء والمرؤوسين في المكاتب المختلفة .
اما الوثيقة التي لا تفصح ولا تبين الا بعد حين فهي تلك الوثيقة التي تصورها المشاعر والاحاسيس وتشوبها الاهواء وتخالطها المصالح الشخصية . فمثل هذه الوثائق كالشاهد المغرض الذي يعرف الحقيقة ثم يدلس وينحاز الى سواها متعمدا، ونجد ان التعامل مع مثل هذه الوثائق يحتاج الى مؤرخ يملك من السعة في العلم والمعرفة والدراية وفسحة من الصبر ليعيد استجوابها مرة تلو الاخرى ليتحقق من صدق تفاصيل محتوياتها حتى يميز بين حقيقتها وزيفها .
والحقيقة فان مثل هذه الوثائق نادرة الوقوع في المعاملات الرسمية والحكومية عامة ولكنها كثيرة الوقوع ومتواترة في الوثائق العثمانية التي يهتم بها هذا الكتاب بل انها ربما شغلت اكثر ما ورد فيه . ففي العديد من هذه الوثائق العثمانية تختلط الامور حيث تذهب بالمؤرخ مذاهب شتى وتحتاج الى مؤرخ صابر يستقرئها ببعد نظر ليقيم عودها ويصقلها ثم يتعامل معها بعدئذ بكل اناة وتروي .
ان الوثائق العثمانية حينما تتكامل لدى الباحث مع الوثائق البريطانية ستقود في حد ذاتها الى تفسيرات صائبة للاوضاع السياسية والادارية , فالوثائق البريطانية تختلف في مجملها عن الوثائق العثمانية المعاصرة لها (في هذه المنطقة على الاقل) في ثباتها على سياسات معينة صاغتها المؤسسات البريطانية التي التزمت بتحقيق الاهداف الواضحة الجلية لتلك الدولة . فقد كانت بريطانيا تلزم موظفيها وكما هو واضح من وثائق على سنوياتهم كافة بسياستها التي يتعين عليهم تنفيذها او ان يتخلو عن وظائفهم بعكس الموظفين العثمانين او الولاة الذين يقتفون دروبا لا تؤدي الا الى خدمة مصالحهم الخاصة واستغلال الانسان لاستخلاص الميري ومبالغ الالتزام مضافا اليها الرشاوي والاتاوات التي تدخل جيوب الولاة والمتنفذين فمن عجب ما تقرأ في الوثائق محاولات لاحصاء الاغنام في هذه الولاية او تلك المتصرفية في حين لا توجد وثيقة واحدة عن احصاء السكان مثلا ولا عن مؤسسات التعليم والعلاج . ان اهداف الدولة في العراق وشبه الجزيرة العربية لم تكن واضحة لرئاسة الدولة ذاتها في استنبول . لكن المؤرخ يجد في هذه الوثائق (الفعل) و (رد الفعل) الذي غالبا ما يكون بدوره انعكاسا لاهداف شخصية للقائمين بالامر في العاصمة او الولايات .
ومن المهم التعامل موضوعيا مع الوثائق العثمانية التي يجب على المؤرخ التعامل معها بكثير من الدقة للاسباب الموضحة اعلاه .
لقد غطت هذه الوثائق الموضحة بالكتاب مساحة جغرافية شاسعة شملت شبه الجزيرة العربية بساحلها الممتد على طول البحر الاحمر حتى جنوب اليمن ثم تنقطع هناك عن مدن ومناطق الاستعمار والهيمنة البريطانية فلا نجد فيها اي ذكر للمقاطعات الجنوبية من اليمن الا ما كان من امر الاحتكاك في مناطق التماس بين الوجود العثماني والسيطرة البريطانية, كما تغفل هذه الوثائق منطقة عمان بشقيها التي تشكلها دولة الامارات العربية المتحدة حاليا الا فيما يخص علاقاتها مع قطر ونجد احيانا . ام الاحاء والكويت والبصرة فهي من المناطق الجغرافية التي ظفرت بالقدح المعلى من هذه الوثائق وياتي الاختيار للوثائق المتعلقة بالعراق عامة وبالموصل وبغداد خاصة متصلا بالشؤون الادارية والعسكرية والمالية بالبصرة وارتباطها ارتباطا عضويا بمناطق الخليج وشبه الجزيرة العربية .
لقد بذل الدكتور عبدالعزيز عبدالغني ابراهيم (المعد) وهو المؤرخ الذي عرف عنه اهتمامه الكبير بالوثائق واستعمالاتها جهدا طيبا ومثابرة تنم عن فهم كامل وتام لاهمية الوثيقة ومكانتها مما يدل على خبرته الواسعة ومعرفته المنهجية التي تجعل من هذا الكتاب مرجعا مهما لكل باحث في تاريخ المنطقة.