سوف والإحتلال الفرنسي:
في ديسمبر 1854م وصل العقيد الفرنسي"ديفو" بقواته الهائلة إلى وادي سوف مستطلعا الوضع العام، ثم رجع إلى تقرت ليعلن يوم 26 ديسمبر 1854 على أن "علي باي بن فرحات" ممثل فرنسا وقايد على تقرت ووادي ريغ ووادي سوف. وعمل ديفو على مراقبة منطقة وادي سوف، وحاول إضفاء نوع من الاستقرار عليها عن طريق المراسيم والأوامر، وفرض الضرائب وحث السكان على العمل تحت أوامر "علي باي"، إلا أن المنطقة بقيت مجالا للاضطرابات، وبدأت تحركات رجال المقاومة الشعبية وخاصة سي النعيمي ومحمد بو علاق اليعقوبي وبن ناصر بن شهرة ومحمد بن عبد الله، وحينئذ عمل الفرنسيون على تحقيق نوع من الهدوء في المنطقة، فشيدوا عدة أبراج للمراقبة في الجهات الأربعة لسوف لتأمين القوافل والمحافظة على الأمن، ولكن المقاومة ظلت مشتعلة بوادي سوف وما جاورها وامتدت من عين صالح إلى ورقلة وتقرت وسوف وتبسة ونقرين وبلاد الجريد ونفطة التونسية.
قاد هذه المقاومة محمد التومي بوشوشة، الذي استولى على ورقلة في 5 مارس 1871، وعيّن عليها بن ناصر بن شهرة آغا، وكانت ورقلة تابعة لعلي باي، فاتصل جماعة من شعانبة الوادي ببشوشة وأخبروه بأن "علي باي" أودع أمواله وعياله ببلدة قمار، التي هاجمها بوشوشة يوم 8 مارس 1871 فاحتمت عائلة على باي بالزاوية التجانية، وبعد مفاوضات مع أعيان الوادي، رجع بوشوشة وسلمت عائلة "علي باي"، لكن آغويته لم تسلم من سطوة بوشوشة الذي استولى على تقرت في 13 ماي 1871 وعيّن عليها بوشمال بن قوبي آغا، فصارت وادي سوف تابعة لسلطة بوشوشة.
ولما تأكد للفرنسيين عجز "على باي" أعدوا جيشا بقيادة الجنرال "لاكروا فوبوا" الذي أعد خطة استطاع بها انتزاع ورقلة وتقرت من أنصار بوشوشة في جانفي 1872 واتجه نحو سوف فأخضعها للسلطة الفرنسية وعيّن عليها حاكما من جنود الصبايحية يدعى"العربي المملوك".
والجدير بالذكر أن وادي سوف ما بين 1837 - 1872 كانت ملجأ آمنا للمقاومين، تدعمهم بالمال والسلاح والرجال، ولما انتهت فترة السبعينات من القرن 19 بتصفية فلول المقاومة الشعبية بالجنوب، بدأ الفرنسيون يهيئون الظروف للاستقرار في الجنوب الجزائري، قريبا من الحدود التونسية التي كانت فرنسا بصدد التخطيط لاحتلالها، وتعتبر سوف أهم موقع يمكن استغلاله لتأمين ظهر الفرنسيين.
وتمكنت فرنسا من فرض الحماية على تونس في 12 ماي 1881 وفي مقابل ذلك كُلف الضابط "ديبورتار" - الذي سبقت له المشاركة في احتلال تونس - بتأسيس أول مكتب عربي بالدبيلة القريبة من الحدود التونسية، فكانت المركز الأول للاستقرار الفرنسيين في سوف. ثم أخذت القوات الفرنسية في التزايد بالدبيلة واستمر إلى سنة 1887، وبعد ذلك بدأ العدد يتناقص لأن الإدارة الفرنسية بدأت الاستقرار بقوة في مدينة الوادي عاصمة الاقليم منذ سنة 1882، ويعتبر النقيب "فورجيس" (1886-1887) ثاني حاكم عسكري لملحقة الوادي، والذي خلف الضابط "جانين". واستعان الفرنسيون بالقياد وشيوخ القبائل لادارة شؤون السكان، وصارت الوادي ملحقة منذ 1885 تابعة لبسكرة ثم حُولت إلى دائرة تقرت عام 1893، وشهدت الملحقة بعد ذلك تغيرات مستمرة في حكامها العسكريين.
وفي عام 1902 حدث تغيير في التقسيم الإداري بالجنوب فأصبحت سوف تابعة لإقليم الصحراء، وطُبق عليها الحكم العسكري الذي ضيق الحريات، إلا أن الوعي الوطني برز جليا في ثنايا الطرق الصوفية وخاصة الشيخ الهاشمي وابنه عبد العزيز الذي تأثر برحلاته إلى الزيتونة والمشرق العربي، وتحول من شيخ للزاوية إلى داعية للأفكار الاصلاحية في صفوف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكلفه ذلك النفي والتشريد من طرف السلطات الاستعمارية، ومهد ذلك لبروز الحركة الوطنية الاستقلالية بعد الحرب العالمية الثانية، والتي شرعت في بث الوعي الوطني وتجنيد المناضلين وجمع الأسلحة والتهيئة للثورة التحريرية.
جمع السلاح والتحضير للثورة: بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بقيت مخلفاتها التي تتمثل في الأسلحة والذخائر ، وقد تسرّب من ليبيا وتونس إلى وادي سوف بعضا منها، فأمر المستعمر أعوانه من شيوخ وقياد بجمعها بأي وسيلة، فجمع بعضها وبقي منها الكثير لدى السكان، ووصل ثمن الواحدة حوالي 1500 فرنك قديم، والعلبة الواحدة من الذخيرة ذات 6 رصاصات 20 فرنك قديم. عندئذ شرع محمد بلحاج الذي أسند إليه النظام السري بالوادي مهمة جمع السلاح عبر الصحراء فبدأ بجمع السلاح من مواطني الداخل وتخبئته، ثم بدأ السفر إلى البلدان المجاورة لجلب ما يمكن جمعه من الأسلحة. فمن قرية سناول شرق غدامس بليبيا اشترى محمد بلحاج كمية كبيرة من السلاح ومختلف أنواع الذخيرة، وعند عودته خبأها في غوط نخيل شرق الوادي بقرية الطريفاوي، كما سافر ثانية رفقة الخبير " محمد بن الصادق " وأتى بكمية وافرة من السلاح والذخيرة والنظارات الكاشفةللأبعاد، وفيها وصل سعر البندقية الواحدة أقل من 800 فرنك قديم، حتى أن الحمولة كانت ثقيلة فترك جزءا منها وأخذ عددا أكثر من الابل لجلب الكمية المتبقية. ثم سافر مرة ثالثة رفقة العريف " بوغزالة بشير بن نصر " سنة 1949م وأتى بكمية لا بأس بها من السلاح والذخيرة. وفي الفترة ما بين 1948م و 1953 م سافر " زواري أحمد الصادق " في أكثر من مرة إلى طرابلس وتونس وأتوا بكميات من السلاح حيث خبأ الكثير منها في غواطين النخيل حيث يقع الغوط الأول في نزلة الطلايبة جنوب شرق الوادي والثاني غوط عدائكة شرق تكسبت شمال الوادي
نقل السلاح نحو الشمال: عند توتر الأوضاع وتفتيش المنازل، توقف " محمد بلحاج " عن السفر لجلب السلاح لفترة استغلها في تحويل السلاح نحو الشمال. وقد كانت هذه العملية صعبة وشاقة، واتخذوا في ذلك عدة وسائل منها ما نُقل بواسطة الإبل، حيث قدم إلى الوادي شخصان من زريبة الوادي ببسكرة يقودان قافلة من الإبل محملة بالشعير ، وبعد بيعه حمّلوا السلاح والذخيرة، وأشرف على قيادة القافلة " محمد بلحاج " مرفوقا بـ "عبد القادر العمودي " و" بن موسى بشير" ومعهم عريف الطريق، وبعد وصول القافلة إلى زريبة الوادي و زريبة حامد - التي كانت المركز الاستراتيجي في عملية نقل السلاح إلى الأوراس - وبعد صعوبات في الطريق كاد الاستعمار أن يكشفها، وجدوا شخصان في انتظارهم، وكانت كلمة السر بينهم الاستظهار بنصف ورقة نقدية ذات 20 فرنك قديم يقدمها أحدهم للآخر ليقارنها مع النصف الذي بحوزته، وعند التأكد يسلّم السلاح . وقد تم الأمر كما خُطّط له، ورجع المجاهدون إلى الوادي بعد انتهاء مهمتهم بنجاح. وكما تواصلت عملية ترحيل السلاح والذخيرة على الإبل، نُقل السلاح أيضا بواسطة الشاحنات والحافلات حيث كانت شاحنة نقل الطليان المسافرين الرابطة بين الوادي وبسكرة، وكانت الأسلحة الصغيرة الحجم كالمسدسات والذخيرة توضع في صناديق التمر والشاي وأكياس دقلة نور، أما الصناديق فتُلف في ملاحف وتُغلّف بحصائر ، وبتلك الأسلحة نفّذ المجاهدون في الأوراس أول عملياتهم الفدائية ، وبها فجّروا الثورة التحررية يوم الفاتح من نوفمبر 1954م، بالإضافة إلى " مادة الديناميت " التي يصنع منها القنابل، فكان الشهيد ونيسي الأمين مُكلفا من طرف الحاكم العسكري بالوادي بتوزيع مادة التفجير الفلاحي في " حاسي خليفة " لاستعمالها في إزالة الطبقة الحجرية المتواجدة على سطح الماء عند علف النخيل، وكان ونيسي يُحوّل أكثر من 50% من المادة المذكورة إلى المكلفين بنقل السلاح للشمال ويستخدمها " مصطفى بن بولعيد " في شكل قنابل تقليدية إذ خُصص لها شاب يُدعى " عنتر " كسب خبرة عالية في حرب الهند الصينية، وهذه المادة استعملها المجاهدون في بداية الثورة لنسف معسكرات العدو وتحطيم طرقاته.
معارك وادي سوف: وبالرغم من أن خصائص المنطقة غير صالحة نظريا لخوض المعارك, إلا أنها لم تتخلف عن الركب و كانت هناك معارك كبيرة و مشهورة مع العدو نذكر منها :
معركة حاسي خليفة: - مكان المعركة: شرق حاسي خليفة. - التاريخ: 17 نوفمبر 1954م وهي أول معركة بالمنطقة. - عدد المجاهدين المشاركين: 13. - خسائر المجاهدين: جريح واحد قُبض عليه وهو " شعباني بلقاسم ". - خسائر العدو : 75 قتيل وكثير من الجرحى، كما استحوذ المجاهدون على عدد معتبر من الأسلحة.
معركة صحن الرتم: - مكان المعركة: صحن الرتم بين الجديدة والمقرن شمالا. - التاريخ : 15 مارس 1955م. - عدد المجاهدين المشاركين: 22. - خسائر المجاهدين: 8 شهداء وجريح واحد هو " محمد لخضر عمارة " وأُسر " المقدم مبروك ". - خسائر العدو: ضخمة
معركة هود شيكة: - مكان المعركة: هود شيكة (غيطان نخيل يتكوّن من 200 نخلة وهو ملك لمُعمّر يدعى شيكة) بالجديدة، وقد استعمل فيها العدو الفرنسي الطيران والقومية واللفيف الأجنبي. - التاريخ : 8 - 9 - 10 أوت 1955م بقيادة الشهيد محمد لخضر عمارة المدعو " حمّ لخضر ". - عدد المجاهدين المشاركين : 32. - عدد المجاهدين المجندين في الطريق: 5. - عدد المجاهدين المجندين في المعركة: 8 من بينهم امرأة تدعى " ارحومة مريم ". - العدد الاجمالي للمجاهدين : 45. - خسائر المجاهدين: 31 شهيد ولم ينج من القتل إلاّ واحد هو " قريد عبد المالك " المدعو " الجنة ". - خسائر العدو : أكثر من 600 قتيل وكثير من الجرحى.
معركة الدبيديبي: - مكان المعركة : الدبيديبي ببلدية العقلة. - التاريخ : 15 جانفي 1956. - عدد المجاهدين : 64. - خسائر المجاهدين: 39 شهيد وبعض الجرحى والأسرى. - خسائر العدو : ما يزيد على 70 قتيل وجريح وإسقاط طائرة.
معركة هود سلطان: - مكان المعركة : نواحي تاغزوت، وقد استعمل فيها العدو الطيران. - التاريخ : 16 جانفي 1956. - عدد المجاهدين : 15. - خسائر المجاهدين : 8 شهداء. - خسائر العدو : 120 ما بين قتيل وجريح.
معركة مجزرة رمضان 57: لقد أثمرت جهود القائد الطالب العربي في تنظيم الثورة بسوف، حيث نشط العمل الثوري إلى غاية 1957م، وأصبح للثورة شبكة من الخلايا لجمع المال وإمداد الثورة بالرجال والعتاد تحت إشراف الحاج البشير غربي إمام مسجد ( عَمْرَ ) بحاسي خليفة، وقد لفت هذا النشاط انتباه العدو، وتمكن السفاح " بريدو " وقائد لاصاص " لوكار" من كشف التنظيم المدني الذي كان يمول منطقة زايف والأوراس بالمؤونة والسلاح والمجاهدين، وشرعوا في الاعتقالات الفردية والجماعية، ومداهمة المنازل طيلة شهر رمضان. وتعرض المجاهدون للتعذيب و الإستنطاق، فأحدث مجزرة رهيبة تجاوز ضحاياها 140 شهيدا من كل قرى سوف، وذلك يوم الاثنين أول رمضان 1377هـ الموافق لأول أفريل 1957م، وقد أثرت سلبا على العمل الثوري، والجدير بالذكر أنه لم يتم الإشارة لهذه الحادثة في تقارير السلطات الإستعمارية بالمنطقة.
شهداء وادي سوف: كانت وادي سوف كمثيلاتها في كامل القطر الجزائري سباقة إلى العمل الثوري، بداية باحتضانها للحركة الوطنية ومرورها بالتحضير للثورة، فكانت معبرا للسلاح الذي قامت الثورة بواسطته بطرد العدو الغاصب الذي احتل الأرض واستباح العرض وحاول مسخ ثوابتها من دين ولغة، فلم تبخل وقدمت كل ما يمكن تقديمه من جهد وسلاح ورجال. وقد بلغت الحصيلة التقريبية لشهداء الوادي 768 شهيدا نذكر بعض أسماء القادة على سبيل المثال لا الحصر:
اسم الشهيد تاريخ ومكان الولادة استشهد بتاريخ القائد الجيلاني بن عمر سنة 1926 بالعقلة 20 / 10 / 1955 في معركة الدبيديبي
القائد محمد لخضر عمارة سنة 1930 بجديدة ( الدبيلة ) 10 أوت 1955 في معركة هود شكة
القائد الطالب العربي قمودي سنة 1923 بالوادي 1957
القائد عبد الكريم هالي 1930 بقمار 1957
القائد سعيد عبد الحي 1927 بقمار 1957