سوف إقليم متميز بخصائصه الجغرافية والبشرية ، ضمن الأقاليم الصحراوية،وقبل الغـوص في عرض تاريخ إقليم سوف، يجدر بنا أن نـُعَـرِّف بهذا الإقليم ونحدد مصطلح "وادي سـوف " أي التعرف على "الإيتيمـولوجي" (Etymologie) لهذه الكلمة. فمن خلال الأساطير القديمة و التي تقول : إن العهد الأول للمسيحية بالمنطقة قد واكب جريان نـهـر غزير ، يجتاز الإقليم من الشمال إلى الجنوب ، يطلق عليه "واد ـ إزوف" التي تعني خـرير المياه أو هديره وبعد الفتح الإسلامي للمنطقة ، وانحسار المسيحية ، غارت مياه النهر إلى باطن الأرض(1) أو بعبارة أخـرى غـاص النهر بكامله بحيث يمكن مشاهدته اليوم عن طريق الوسائل العلمية العصرية المتمثلة في صور الأقمار الإسطناعية للأرض بالأشعة ـ وبـمرور الزمـن تغيـر الاسـم من"واد ـ إزوف" إلى وادي ســوف.
وهناك من يقول أيضًا: إن كلمة سـوف مشتقة من الاسم الأمازيغي"أسـوف" وبالقبائلية العصرية "أسـيـف" وتعني الأرض المنخفضة على ضـفـاف الـوادي ، لهذا أدغمت كلمة الوادي مع سوف وأصبحت وادي سـوف كذلك إن علم اللسانيات يشير بأن كلمة الوادي بالعربية ترادفها بالأمازيغية كلمة سـوف (2).
بينما يرجع البعض الآخر التسمية إلى أصلها العربي ، حيث أن طـرود ، وهي قبائل أصلها عربي قـُحّ ، حينما أتت إلى هذه النواحي قالت :" نـسكن تلك السـيـوف" وهي الأحقاف أي الكثبان الرملية التي حـُرفُها حاد ، وفي القاموس العربي السـُوفة وجمعها سُــوْف تعني الأرض بين الرمل و الجـلـد، و السـائفة هي الرمل الدقيقة الناعمة، ومن هنا اشتق اسم سوف ،لأنها أرض رملية.
كما جاء في كتاب تغريبة بـنـي هلال :" قيل أن أهل سوف حين دخلت العرب إفريقية دخلوها…وسـوف التي ذكرها هي المكان المعروف الآن بسوف البصرة قـرب مدينة حـلب الشـام، فلعلهم أتــوا إلى هذه الأرض فسميت بهم".(3)
وهناك قـول آخـر يشير إلى أن هناك فـرقة الملثمين البرابرة سميت بـ"مـسـوفـة" وهم قبائل صنهاجة الجنوب أو الطوارق ، فعند ابن خـلدون ما يفيد أنهم مـروا بهذه الأرض ، فلعلهم سكنوها زمنًا أو فعـلوا فيها شيئًا فسميت بهم .(4)
وتذكر كذلك بعض المصادر التاريخية بـأن سـوف كان لها الفضل في توحيد زناتة شمالا والطوارق جنوبا ، حيث أن "تيـكسـي" الملكة العرجاء ، أُمّ قبائل الجـيـتـو،لمّا مات زوجها،أعادت الزواج مع أحـد رجال زناتة فأنجبت السـوافـة ولعلها قبائل "ماسـوفا" التي عاشت في هذه المناطق ، فـأطـلـق اسـم سـوف على الإقليم.
ومهما يكن من أمـر فإن أغـلب السكان تـقـرّ بـعـراقـة المنطقة وبالأصل العربي القح لها؛ وبقي أن نشير إلى أن وادي سـوف تعني مدينة الوادي عاصمة الإقليم كما تعني أيضًا إقليم سوف بكامله.
** الخصائص الجغرافية للمنطقة:**
تقع سـوف في الجنوب الشرقي من القطر الجزائري ، ما بين خطي عرض 31° و 34° شمالا، ومابين خطي طول 6° و8° شرق خط غـرينيتش تقريبًا، ويحـدها من الشمال جبال الأوراس النمامشة الممتدة على خـط نقـرين ـ الزاب الشرقي، ومن الشرق الحدود الجزائريـة ـ التونسية ، ومن الجنوب الصحراء الليبية ـ الجزائرية ، ومن الغرب واحـات وادي ريـغ، فهي إذن تـقـع في منطقة منعزلة على شكل مثلث بين الأقطار الثلاث :الجزائر ـ تونس ـ ليبيا.
و سـوف عبـارة عن مسطح تغطيه كثبان رملية يتواجد على التخوم الشمالية للعرق الشرقي الكبير و محـاط بثلاثـة شـطـوط أو سبخات ،هي شط وادي ريغ من الغرب وشط مـروانـة وشـط مـلغيغ وشط الغرسة من الشمال وشط الجـريد من الشـرق.
وبذلك فإن منطقة سـوف تتشكل في نصف دائرة ، وتتجمع حول عاصمة الإقليم مدينة الوادي على مساحـة إجمالية تـقـدر بـ82000 كيلومتر مربع - حسب دراسة الاستاذ "فوازان"(Voisin) - (5) وبأبعاد تـمتـد من الحـدّ التونسي شرقا إلى واحات وادي ريـغ غربا على مسـافـة تقـدر بـ 160 كيلومتر ، ومن إستطيل ـ الحمراية شمالا إلى غـدامـس جـنـوبا على مسـافة 600 كيلو متر تقريبا. أمـّا ارتفاع سـطح الأرض بـســوف فهي حـوالي 80 مترا فوق سـطح البحر ، بينما تنخفض في وسـط شـط ملغيغ إلى ما يقرب 24 مترا تحت مستوى سـطح البحر ــ وهو أكبر انخفاض في الجزائر ــ وبذلك فإن المنطقة تتميز بطابع المناخ القاري الذي ترتفع فيه درجة الحـرارة في النهار صيفًا إلى أكثر من خمسين درجة مئوية وتنخفض ليلاً في فصل الشتاء إلى ما تحت درجـة الصفر ؛ ومن الرياح التي تـهـب عليها ما يعرف بالزوابع الرملية (العـجـاج) ،وهي رياح عاتية مـثيـرة للرمال عصفت ومازالت تعصف منذ آلاف السنين ، نتج عنها ترسب وتراكم هائلات للرمال على شكل كثبان كأنها أمـواج تتـلاطم في بحر هائج موجة تقلب موجة إلى آخر الأفق كما تـهـب عليها أيضًا ريـح حارة تسمى "الشهيلي" وهي من الرياح المحلية التي تهب في فصل الحــرِّ ،فهي جافة ومحرقة تضايق السكان ، عكس ريـح البحري التي تهب من الشرق فهي نسيم الصبا يتلذذ بها الناس في الصيف ويطيب النوم فيها بالأسحار في الهـواء الطلق المنعش ليلاً ،تحت سماء صافية هادئة بنجومها البراقة وقمرها الفائض بضيائه في كل الأرجاء أحيانا ،وعلى العموم فإن الـجــوّ بوادي سوف من أحـسـن الأجـواء ،فـهـواؤه نـقـيٌّ و طيّبٌ وخفيف يساعد على الراحة والهضم.
أمـا الأمطار فهي نادرة بسوف لبعدها عن المسطحات المائية ورغم ذلك فإن نزولها يكثر خلال فصل الأمطار و يتجاوز في بعض الأحيان 100ميليمتر سنويًا.
هذه الظروف المناخية سمحت لأنـواع عـديدة من النباتات والأعشاب والحشائش بالنمـو الكثيف بالمنطقة ، فمن الحشائش العلفية التي سـاعدت الرحل من البـدو على ممارسة الرعي و تربية المواشي أصناف كثيرة منها: البشنة ، و العرجف والخبيز، وبوقريبة، والنمص ، و اللّـبـيـن ، والغبيشاء ، والحميض ، و النجم ، و الشيـح وغير ذلك . كما تنتشر بأرض سوف أنواع عديدة من النباتات للــرعي و التـداوي منها : شجيرة عنب الذئب، و الحرمل، والفجل، والترثوث ؛ أما شجر الحطب فهي : الرتم ،و الأرطي ، و الزيتاء ، و العـلنـدي ، والأزال وغير ذلك .
أما النباتات المسقية من خضـر وفواكه فهي أنـواع عـديدة تشتهر بها سـوف منها : الكابو والفقوس ، والدلاع الأبيض،وأنواع الفلافل،والحلبة ،والحناء ،والتبغ.
وأهم شجرة على الإطلاق في سوف هي النخلة ،لأنها شجرة مباركة ، كانت مصـدر رزق لأغلبية السكان ؛ وأنواع النخيل بالمنطقة كثيرة و متباينة من حيث الطول والقصر، والغلظة والرقّة، والملوسة و التجعيد ، واتساع الأعلى و الأسفل أو ضيقهما ، والرائحة الطيبة والمتوسطة والكريهة ، والطعم الحلو و الحرّيف والمتوسط ، و اللـيـن و اليـبـس ، والتعجيل في النضج والتأخير فيه، وغير ذلك من الأمور .
و من أهم أسماء النخيل بـسـوف ما يلي : دقلة نور، الغرس ، تمرجرت ، قندي ، فاخت، رشتي ، تاشلويت ، تانسليت ، كسباية ، تاوراخت ، تمرزيط ، تنسين ، تافزوين ، تفرزايت ، تكرمست ، فزاني، فطيمي ،كبول فطيمي ،مسوحية، دقلة بيضاء،دقلة حج،دقلة عش،الهتيلة،كنتبشي،أصباع عروس،بزول خادم،علي أوراشت،أم الفطوشة، الذكار (6)…الخ .
إن النخلة وثمارها التمر قد ارتبطتا بتاريخ العرب و المسلمين ، ولقيتا كل الاحترام والتقدير منهم لأن النخلة شجرة مباركة و التمر من ثمار الجنّة و شفاء من السّمّ، وقد ذكر القرآن العظيم النخل والنخيل عشرين مرة منها: { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَّخِيلٍ وَ أَعْنَابٍ }(يس/ 34) { يَنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيتْوُنَ وَالنَّخِيلَ}(النحل/11){وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى ِبماءٍ وَاحِدٍ}(الرعد/4){وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلةِ تُسَاقِط عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِي عَيْنًا}(مريم/25/26) ،ولم يأت ذكر القرآن الكريم للنخل هباء ولكن لما لهذا النوع من التمر من فوائد عديدة ، غذاء ودواء؛كذلك كان للتمر نصيب في السنّة المباركة، ففي الحديث الشريف،يقول الرسول الكريم عليه أبهى الصلاة وأزكى السلام :"من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم و لا سحر." رواه مسلم ، وعن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله (ص) قال:" إن في عجوة العالية شفاء أو أنها ترياق أول البكرة". و عــن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي (ص) قال :" لا يجوع أهل بيت عندهم التمر".(7)
ولهذا نلاحظ أن أهل سوف يتشبثون بالنخلة وغراسها والاعتناء بها برفع الرمل لفكّها وعَزْقِ الأرض وتسميدها بـ"الجلة" وهي أبعار الإبل لتعطي أجود التمور، ويتفاخرون بامتلاكها، كما يحبون التمور ويخزنونها في "الخابية" كعولة أساسية في معاشهم.
أما الحياة الحيوانية ، فقد عاشت في وادي سوف حيوانات وحشرات عديدة منها الوحشية التي انقرضت ومنها الأليفة التي مازلت تربى وتعيش إلى اليوم ، ففضلا عن الغزال والفنك والإبل والدواجن والطيور فإن سوف تتميز بنوع خاص من الحشرات وهو: " الشرشمان " الذي يلقب بسمك الرمل لأن هيكله العظمي يشبه الذي في السمك ، والشرشمان من الزواحف ، لكنه يسبح ويغوص في الرمل كما يفعل السمك في الماء ،فالرمل للشرشمان كالبحر للسمك ، وهناك من يتناول لحمه للتداوي ، و توجد أنواع أخرى كـالورل والوزغة ،واليربوع ، والدخاس …الخ .
يحتوي إقليم سـوف على مجموعة كبيرة من القـرى والمداشـر على شكل واحات منتظمة حسب جريان النهر الباطني في صورة قاطع و مقطوع مائل (X) ، وتتـميـز هذه المجموعة بتماسكها وانسجامها ، وخصوصيتها و استقلالها، ولاشـك أن أهـل سوف ينحدرون من أصل واحـد لأنّ جـذورهم واحدة جعلتهم مترابطين و متآخين عبر الزمن ، رغم اختلاف المضارب المنتشرة هنا وهناك والمتمحورة حول قاعدتها مدينة الـوادي ، ففي الشمال الغـربي نجـد بلدة تيكسبت، وكوينين ، ووُرماس ، و تاغزوت ، وقمار، وغمـرة، والرقيبة ،وهبة ،و الحمراية ، أما في الشمال الشرقي فتتواجد مجموعة أخرى من القرى المتناثرة على امتداد خط الوادي ـ نفطة منها : الطريفاوي ، والخبنة ،ولزيرق ،والزقم ،والبهيمة والدبيلة والمقرن ،وسيدي عون، وسويهلة ، والجديدة ، والدريمني ، والصحين ، وحاسي خليفة ثم بلدة الطالب العربي الحدودية؛ أما الجنوب الشرقي فيشتمل على البياضة ، والنخلة ، والرباح ، والعقلة ، بينما الجنوب الغربي فيحتوي على مجموعة من القرى أهمّها وادي العلندة ، وادي الترك ، ميه ونسه سحبان وغيرها.
** الإطار التاريخي للمنطقة :**
قبل معالجة صميم الموضوع لابد لنا أن نعرج على وادي سوف في الذاكرة القديمة ، ويمكن تقسيمها إلى قسمين أساسين هما:
ـ سوف قبل الإسلام . ـ العصر الإسلامي في المنطقة .
**أ- سوف قبل الإسلام :**
إن التجمعات البشرية قد انتقلت إلى وادي سوف عبر القرون الغابرة بسبب توافر الكلاء والماء والصيـد ، لهذا تواجد الإنسان القديم منذ زمن سحيق وانجذب إليها كباقي مناطق الصحراء ، وتدل الشواهد التاريخية المتوفرة لدينا على وجود الحياة الغابرة بالمنطقة ، ذلك أن الحيوانات المحلية والنباتات الصحراوية كانت غزيرة ، حيث حفظت لنا الأرض البقايا الأثرية واللقى العظيمة ، وأظهرت بعض الاكتشافات معلومات هامة ، منها أنه في سنة 1957 م عثر على هيكل عظمي لفيل عظيم منقرض من نوع " الماموث " في حالة جـيّدة كان مدفونا شرق بلدة حاسي خليفة ، وهو الآن محفوظ في متحف بـاردو بالجزائر العاصمة ، كما عثر أيضًا على عـدة صـدف رخـوية ، ومحار بيض النعام بالعرق الشرقي الكبير، وقد عثر على بيضة كاملة للنعام على عمق ستّة أمتار في واحة هُـبّـة وهي معروضة بـمتحف الـوادي .كما أن المحطات الأثـرية لفترة ما قبل التاريخمنتشرة بكثرة في سـوف ،وتحتوي على الصـوان المنحوت من أدوات كثيرة ، بحيث يمكننا أن نلتقط في أي مكان السهام المنحوتة ، وبأحجام مختلفة و لعـهـود عـديـدة و التي تـشـهـد على التاريخ الحجـري بـسـوف ؛ ذلك أن العصر الحجري المصقول " النيو ليتيك " (Néolithique) و القـفـصـي الأعلى ممثل في سـوف(
فالشفرات بوجهين ، والمكاشط و المجرفات و الخـرز و الفؤوس و السـهـام المسنّنة تتـواجـد في عـدّ ة أماكن ، فقد اكتشفت مـراكز عديدة في الأراضـي البكر التي لم تستغل في الميدان الزراعي والعمراني ، وتحتوي على بقايا و شظايا أثـرية تكتسي أهمية كبرى ؛ ويمكن تقسيم هذه البقايا إلى قسمين أساسيين هما :
أ) ـ العصر الحجري المصقول ومعالمه واضحة في الجنوب و العـرق .
ب) ـ العصر القـفـصـي و يغطي القسم الشمالي .
ذلك أن العصر الحجري الأخير و لفترة تمتـد على أكثر من سـتـّـمائة ألف سنة ،قد جعل من منطقة وادي سـوف حــاضرة لـعـهـد ما قبل التاريخ بحيث تدلّ الشـواهد الأثرية على ازدهارها و تطـورها.(9)
أمّا التاريخ القديم للمنطقة ،فمن خلال تحليلات كتابات هيرودوت و هـانون نـَتَـبـيَّـنُ على أن هذه الجـهات الصحـراوية قد سـكـنـها الليبيـون و الإثيوبيون ثمّ الجـيـتـوليون(10) وكانوا يـرعـون بـمـواشيهم بـحثـًا عن الكلاء والمـاء، ويـضـيـف إليهم بعض المـؤرخـيـن قبائل "زيــفـون " (ZIPHONES) و إفـوراس و مـاسـُـوفَـا، كذلك تـواجـد شعب "الغرامانت"(GARAMANTE) الذي عـاش شمال شرق الصحـراء حتى الحـدود الـطـرابلـسـية، وأسـس ممـلكة غــرامـا. ويمتاز شـعـب الغرامانت بالشـجـاعـة و الإقــدام والقـدرة القـتـاليـة الفائقة، فهو من الشـعـوب المـحـاربة، حيث خـاض عــدّة حـروب طاحنة من أجل بـسـط سـيـطرته على المنطقة التي مارس فيها الرّعي و الصيـد وبعض الفـلاحة ، تـمـاشيـا مع طبيعته البدوية ، والجدير بالذكر أن هذه الشعوب سـادت وبــادت بالمنطقة وربما لم يبق منها إلاّ بعض الآثـار المتمثلة في أسماء بعض القـرى منها: تـاغزوت وتيكسيبت و زقم ؛ أو بعض أسماء التمور، مثل تاكرمست ، تفازوين، تانـسـليت ، تافرزايت …الخ .
كما برز في القرون العتيقة الشعب الفينيقي العظيم ، المنحدر من الكـنـعانيين، والذي شـيـّد حضـارة زاهية يـشـهـد لها التاريخ ، ذلك أن أراضيهم ممتدّة على السـاحل الـسـوري، لهذا احترفوا الـبـحـارة و التـجـارة، فــيـعيشون الأيام و الشهـور في الأسفار و ركـوب البحـار لبيع مصنوعاتهم في البلاد القـريبة والبعيـدة بالقارات الثلاث ( آسيا ـ أوروبا ـ إفريقيا ) ؛ ومنذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد بـدأ الفينيقيون يـفــدون على الحـوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط، ويتصـلون بأرض المغرب فيـبـيـعون إلى أهـلـه ما يحمـلونه من سـلع عـديدة ، ثمّ ما لبـثـوا أن أسسـوا مدنا لهم على السـواحل أهـمـهـا مـدينة قـرطاج .
و تـشـيـر بعض كتب تاريخ المغرب القديم إلى قضيـة اتصال نـسـب الأمـازيغ بالكنعانيين بـأنهم أخـوة و أبـنـاء عـمـومة و أن أصـل الأمازيغ ينحدر من مازيغ بن كنعان بن حام بن نوح عليه السـلام ، لذلك فـإن الروابط والعلاقات سرعان ما توطدت بين الوافدين و أهل البلاد ، فـشـيـدوا مـعـًا فيما بعد حـضـارة راقية هي الحضـارة القـرطاجية.
والذي تـرجـحـه الأخـبـار عن جـمـهـور المؤرخين أن الكنعانيين قد بلـغـوا أرض سـوف، وكانت مساكنهم في وادي الجـردانية ، المـدينة التي شـيـّـدها برابرة زناتة حين قـدمـوا إلى سـوف ، وموقعها شـمال الـــوادي على طريق نقرين، وعلى مسافة خمسين كيلومتر(11) ، وكانت لهم عـلاقات تجـارية مع بـلاد الـسـودان عن طـريـق الـبـَـرّ.
ورغم أن القـرطاجيين لم يتوغلوا بالداخل و لم يتجاوزوا الخـط الرابط ما بين تبسة وطرابلس إلاّ أنهم ربـطـوا عـلاقات تجـارية بـريـة مع الـسـودان عـبـر الـعرق الشـرقي الكبير بطريقة مباشرة، فكانت القوافل الليبية تحمل سـلعًا إفريقية كالعاج والذهب ، والزمرد، وريش النعام ، والعبيد ،وتـقـطع بها أرض سـوف لتبيعها في الشمال ، وكانت هذه التجـارة تحت مـراقبة قبائل الغرامانت لأنهم يـقتـطعون منها الضـرائب و المـكوس العالية ، كما كان للقرطاجيين ممثلون ووكلاء عن تجارتهم بغـدامس و سـوف.
و بعد انتصـار الرومان على القرطاجيين ، والقـضـاء على قـرطاج عام 146 قبل الميلاد بـدأت سياسة التوسـع الروماني تظهر بالمنطقة ، فاكتفوا في المرحلة الأولى بتأسيس إقليم ولاية إفريقية (PROVINCIA - AFRICA) التي تضم تراب الدولة القرطاجية التي تقدر مساحتها بحوالي خمسة وعشرين ألف كيلو متر مربع ، وتمتد من طبرقة غربا إلى خليج قابس جنوبا ، و فصلوا هذا الإقليم عن المملكة النوميدية بخندق يعرف "فوسا ـ ريجييا" (FOSSA - REGIA ) وهو يأخذ شكل هلال مفتوح أكثر في نهايته ، مارا بالحدود الغربية للولاية (12).
و بعد حروب ضارية خاضها الرومان ضد سكان المغرب عرفت في التاريخ بالحروب الإفريقية (BELLUM - AFRICUM ) قضت على الملك يوبا الأول وألغت المملكة النوميدية نهائيا ، و أعلنت عن قيام ولاية رومانية جديدة على أنقاضها سميت بإفريقيا الجديدة(AFRICA - NOVA ) أما المنطقة التي ورثها الرومان عن القرطاجيين فأصبحت تعرف بإفريقيا البروقنصلية نظرا للنظام المدني الخاص الذي وضعه المحتل لها عكس النظام العسكري السائد في باقي بلاد المغرب (13) .
وبذلك هدأت الأمور وانتشر السلم والأمن المعروف تاريخيا بـ"السلام الروماني" (PAX - ROMANA ) والذي عم العالم القديم تحت قيادة الإمبراطور أوغست ، لكن إقـلـيـم سوف قد خرج عن هذا السلام لأنها تقع على الحدود الجنوبية للنفوذ الروماني الممتد من جيميلا (GEMELLAE) جنوب أورال (MATORES) إلى نقــــريــــن و تهودة أو تابودوس (THABUDEOS) ثم توزوروس (TUSOROS) أي مدينة توزر الجميلة بالجريد ، وتوريس- طامالوني(TURRIS - TAMALLENI) وهي قبيلي. وبعد احتلال ماريوس(MARIUS) لقفصة ، حاول الرومان اكتشاف سوف والمناطق الجنوبية فقام الحاكم الروماني " كورنيلوس ـ بلبوس"
(CORNELLIUS - BALBUS)بغزوة علىغدامس (CYDAMES) خلال سنة 21 قبل الميلاد ، ونصب بها حامية مكثت بعض الوقت ، ثم توغل حتى واحات غراما.وبعد ذلك جاء كل من سبتيموس ـ فلاكوس (SEPTIMUS - FLACCUS) وجيليوس ماترنوس(JULIUS-MATERNUS) على رأس عدة طوابير لشن الحملات العسكرية ضد الغرامات استغرقت ما بين ثلاثة أو أربعة شهور احتل على إثرها غراما وضواحيها ، وقد خلدت هذه الحملات على منقوشات عثر عليها بغدامس تؤرخ ، تواجد هذه الحاميات بصفة دائمة لهذه الواحات خلال عهد الإسكندر الصارم.(14) لذلك فإن الرومان قد جابوا أرجاء الجنوب الشرقي للجزائر في كل الاتجاهات واكتشفوا سوف وحلوا بها و سكنوا بالجردانية والبليدة( وهما قريتان تقعان شمال شـرق مدينة الـوادي ،ولم يبق منهما إلاّ بعض الأطلال ) بعدما قتلوا من فيها وأخرجوهم منها فتفرقوا في إفريقيا.ولم يكتف الرومان بذلك بل تعمقوا في أرض سوف وبنوا قرى أخرى من مختلف أرض سوف ويوجد أثار ذلك في " سندورس" (SENDROUS) التي تقع بجنوب شرق الوادي على بعد حوالي عشر كيلومتر والمعروفة " زملات ـ سندورس" وكذلك في قمار و الرقيبة وغرد الوصيف الذي يقع جنوب غرب الوادي على بعد أربعين كلم.
ومن الشواهد التي تبرهن على الآثار الرومانية بالمنطقة ، هي قطع النقود الرومانية و النوميدية التي عثر عليها بسوف وهي معروضة اليوم بمتحف الوادي ، منها قطعة في حالة جيّدة تزن ثلاثين غراما ، ضرب عليها صورة قيصر أوغست وتخلد السنة الثامنة عشر من تنصيبه على العرش ، كما عثر على نقود أخرى للعهد الجمهوري "نيرون" (NERON) ومعها نقود نوميدية لعهد يوغرطة وكذلك عهد الملك يوبا الثاني . أما في عهد الوندال ، الذين جاءوا إلى إفريقية في بداية القرن الخامس الميلادي لطرد الرومان منها و إحلالهم محلهم لاغتصاب خيراتها الوفيرة ، فقد حاصروا قرطاج ثم قاموا بهجوم كاسح عليها قتلوا على إثره كل من وجدوه من الرومان وهدموا الصوامع والكنائس و فرّ الرهبان أتباع الأسقف القرطاجي "دونا"(DONA).وبذلك سميّ أتباعه بالدوناتيين ـ والتجأ الكثير منهم إلى الجنوب فاحتموا في قفصة والجريد وذهب البعض منهم إلى سوف واستقروا في بلدة سحبان جنوب شرق الوادي وكذلك بلدة جلهمة قرب قمار(15).ولهذا فإن الرومان قد سجلوا حضورهم بوادي سوف رغم بعده عن مناطق تنافسهم.
**ب- العصر الإسلامي في المنطقة :**
توقفت الفتوحات الإسلامية عند برقة و الجزء الشرقي من ليبيا في عهد الخليفة عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه ) ، ولما تولى الخلافة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) سمح للجيوش الإسلامية بالتوجه نحو المغرب ، فأرسل حملة لفتح إفريقية في حدود سنة 24 هـ الموافق لسنة 646م ، بقيادة أخيه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح على رأس جيش من عشرين ألف جندي ، ساروا إلى أن وصلوا سبيطلة التي هي دار ملك جرجير البطريق البيزنطي وملك الروم بإفريقيا وكان سلطانه من برقة إلى طنجة ، كانت بينه وبين عبد الله بن أبي سرح مراسلات من أجل السلم ، لكن جرجير أبى وتأهب للحرب والتحم الجيشان في قتال عنيف ، تغلب فيه جيش المسلمين بعد مصرع جرجير ، ودخل المسلمون المدينة و كان ذلك هو عام فتح إفريقية. (16). لما ولي عقبة بن نافع على إفريقية ، اختط مدينة القيروان كقاعدة ارتكاز ليواصل الفتح فاجتاح المغرب كله حتى وصل مياه المحيط الأطلسي ،وأدخل قدمي فرسه في ماء المحيط وقال قولته المشهورة:" والله لو كنت أعرف أن وراء هذا البحر يابسة لأقتحمتها لأرفع فيها كلمة الله …"، وفي العودة استشهد مع بعض أصحابه في موقع " تهودة " بالزيبان على يد قائد البرانس كسيلة .
والجدير بالذكر هو أن وادي سوف قد فتحت في عهد عقبة ، وأنه قد عين حسانا على رأس جيش ليفتح به المنطقة الممتدة ما بين بسكرة و ورقلة، بما فيها إقليم سوف ، وكان ضمن سرايا المسلمين التي تلقن تعاليم الإسلام بالمنطقة البعض من بني عدوان استقروا بأرض سوف.و بعد استشهاد عقبة واصل حسان بن النعمان الفتح بالأراضي الإفريقية ، واصطدم حينئذ بالكاهنة المدعمة بعسكر عظيم من البربر ( الأمازيغ ) والروم ، فالتقى الجمعان و اقتتلا قتالا شديدا ، فرّ على إثره حسان مغلوبا و قُتِلَ من جيشه عدد كبير و أسرت الكاهنة عددا آخر ، ولحقت بالقائد حسان حتى خرج من قابس ونزل في برقة .
ولما سبرت الكاهنة أحوال المسلمين ، أمرت قومها بتخريب البلاد حتى تقطع أطماع المسلمين ، فأرسلتهم إلى كل ناحية فخربوا ديارهم ، وعضدوا أشجارها ومحوا جمالها ، وجالوا بالفساد خلالها ، وكانت كلها قرى متصلة . وبلغت سياسة التخريب منطقة وادي سوف ، ومن ذلك الوقت بقيت كغيرها خرابا و هو ما يطلق في التاريخ بخراب إفريقية الثاني ، بعد الخراب الذي أحدثه البيزنطيون بالمنطقة حين اجتاحوا المنطقة قديما.
عاود حسان الهجوم على الكاهنة بعد أن أطلقت سراح الأسرى إلا واحدًا اسمه خالد بن يزيد العبسي أُعْجِبَتْ به الكاهنة فعمدت إلى المؤاخاة بينه وبين ولديها الاثنين، ثم أمرتهم أن يمضوا إلى حسان و ينخرطوا في صفوف الجيش الإسلامي ، وبعدها تقدم حسان حتى التقى بالكاهنة وهزمها في معركة ضارية ، ثم تبعها وقتلها ببئر الكاهنة ( أو بئر العاتر الآن ) وبعث برأسها إلى الخليفة الأموي عبد الملك بالمشرق (17).يتتبع....