أهم جوانب النشاط الحضاري في العصر العباسي الثاني
رغم المشاكل السياسية العديدة التي شهدتها دولة الخلافة العباسية في عصرها الثاني فإن اللافت للنظر أن هذه الحقبة تعد أخصب عصور التاريخ الإسلامي في عطائها الحضاري متعدد الجوانب .
وهذه نبذه عن أهم الانجازات :
الجانب الثقافي في الدولة العباسية الثانية :
نشطت الحركة التأليف في فروع العلم المختلفة نشاطا ملحوظا طوال هذه الفترة وقدمت دولة الخلافة المترامي الإطراف علماء أفذاذ يعترفا لهم العام كله – حتى يومنا هذا – بالفضل والمكانة . ففي مجال علوم الحديث يتألق اسم عمدة المحدثين الإمام البخاري المتوفى سنة (256ه – 870 م ) هذا بالإضافة إلي مجموعة أخري من أعلام المحدثين لعل أبرزهم الإمام مسلم ( ت : 261 هـ ، 875 م ) وأبو داود ( ت : 275 هـ ، 888م ) وابن ماجة ( ت : 273 هـ ، 886 م ) , والترمذي ( ت : 279 هـ ، 892 م ) , والنسائي ( ت : 302 هـ ، 915 م ) .
وهؤلاء هم أصحاب الصحاح المعروفون . وقد برز من غير أصحاب الصحاح أيضا عدد من أئمة المحدثين , من أمثال داود الظاهري ( ت 270 هـ ، 883 م ) وأبي الحسن الدار قطني (ت 385 هـ ، 995 م ) , الذي يصفه ابن كثير بأنه كان ( فريد عصره ونسيج وحده وإمام دهره في أسماء الرجال وصناعة التعليل والجرح والتعديل وحسن التصنيف والتأليف واتساع الرواية والاطلاع التام في الدراية ) ، ومن أهم هؤلاء أيضا الحاكم النيسابوري المتوفى سنة ( 405 هـ ، 1014م ) وقد عرف عنه انه كان من أهل الدين والأمانة والصيانة والضبط والتجرد والورع , سمع الكثير وطاف الأفاق وصنف الكتب الكبار والصغار . وفي مجال العلوم واللغوية وجدنا أعلاما نابهين يضيق عنهم الحصر .
ومن هؤلاء محمد بن يزيد المبرد صاحب الكامل ( ت 285 هـ ، 898 م ) , وقد كان إمام النحاة في عصره . ومن النحاة المشهورين أيضا الزجاج المتوفى سنة ( 311هـ ، 923 م ) . وقد احتل عالم اللغة ، الشهير أبو علي الفارسي ( المتوفى ببغداد سنة 377 هـ ، 987 م ) مكانة متميزة في بلاط الملك البويهي ( عضد الدولة ) . وقد صنف الفارسي لعضد الدولة كتاب ( الإيضاح ) و( التكملة ) في النحو , وكان عضد الدولة يغدق عليه العطاء ويحيطه بمظاهر التكريم , وكان يقول : ( أنا غلام أبي علي في النحو ) .
وممن عاصروا الفارسي من أعلام اللغة أبو سعيد السيرافي من اعلم الناس بنحو البصريين . ومن بين مؤلفاته كتاب ( أخبار النحويين البصريين ) وكتاب ( الوقف والابتداء ) .يقول عنه ابن خلكان : ( كان الناس يشتغلون عليه بعدة فنون : القران الكريم وعلوم القران والنحو واللغة والفقه والفرائض والحساب والكلام والشعر والعروض والقوافي ) . ويبرز أيضا من بين علماء اللغة في القرن الرابع الهجري ابن فارس ( أبو الحسن احمد بن فارس بن زكريا ) المتوفى سنة ( 390 هـ ، 1000م ) علي أشهر الأقوال . ومن كتبه الذائعة الصيت كتاب ( المجمل ) في اللغة . وقد كان ابن فارس مقيما بهمذان , وله رسائل أدبية أنيقة وأشعار رقيقة .
علي أننا لا نستطيع في هذا السياق أن نغفل اسم عالم يعد من أعظم علماء اللغة , لا في العصر العباسي الثاني فحسب بل علي امتداد العصور الإسلامية كلها , وهو (أبو الفتح عثمان بن جني ) , الذي ولد بالموصل وتوفي ببغداد سنة ( 392 هـ ، 1002 م ) ، ومن بين كتبه الذائعة الشهرة الزاخرة بالقيمة في مجال اللغة كتاب ( الخصائص ) . وله أيضا ( سر الصناعة ) , ( والمذكر والمؤنث ) , ( والمقصود والممدود ) , ( واللمع ) وغير ذلك . وقد شرح ابن جني ديوان المتنبي وكان من المعجبين بشعره . وكان ابن جني صاحب حس أدبي مرهف , وقد انعكس ذلك علي كتاباته العلمية التي اتسم أسلوبها بالجمال الأخاذ فضلا عن الدقة البالغة .
وفي مجال الأدب – إبداعا تأليفا – شهد هذا العصر نهضة تأخذ بالألباب , فقد لمع فيه كوكبة من أعظم شعراء العربية , نذكر منهم علي سبيل المثال لا الحصر – البحتري شاعر الخليفة المتوكل ( ت: 284 ، 897 م ) وقد اشتهر بلغته الموسيقية العذبة ووصفه الرائع , وابن الرومي ( ت: 283 ه، 896 م ) , وقد اشتهر بقدرته علي توليد المعاني وابتكار الصور المعبرة , والمتنبي ( ت 354 هـ ، 965 م ) الذي مازال يحتل مكان السبق بين شعراء العربية قديما وحديثا . وقد خص سيف الدولة الحمداني بعيون مدائحه , كما مدح الملك البويهي عضد الدولة , وأمير مصر كافور الإخشيدي وغير هؤلاء من أعيان عصره , ومن ابرز شعراء هذا العصر أيضا : الشريف الرضي الذي ينتهي نسبه الي الحسين بن علي ابن أبي طالب . كان وثيق الصلة بالخليفة القادر بالله ( 381- 422 هـ ، 991 – 1031 م ) , وعده بعض النقاش اشعر قريش . يقول عنه الثعالبي في يتيمة الدهر : ( هو اشعر الطالبين من مضي منهم ومن غبر , على كثرة شعرائهم المفلقين , ولو قلت انه اشعر قريش لم ابعد عن الصدق , وسيشهد بما اخبر به شاهد عدل , من شعره العالي القدح الممتنع عن القدح , الذي يجمع إلي السلاسة متانة والي السهولة رصانة , ويشتمل علي معان يقرب جناها ويبعد مداها ) .
ويحتل الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري مكانة مرموقة بين شعراء هذا العصر , وقد ولد ي عام ( 363 هـ ، 974 م ) في معرة النعمان , وهي بلدة صغيرة في شمالي لشام بين حلب وحمص وتوفي في سنة ( 449 هـ ، 1057 م ) أي انه عاش في فترة النفوذ البويهي وعاصر من خلفاء العباسيين الطائع لله والقادر بالله والقائم بأمر الله , ولأبي العلاء ديوان ( سقط الزند ) ( ولزوم مالا يلزم ) المشهور باسم ( اللزوميات ) , وسمي بذلك لأنه ألزم نفسه فيه بما لا تفرضه عليه أصول القافية مما يدل علي سعة باعه في اللغة . ويعد أبو العلاء إمام الشعراء الذين صبغوا شعرهم بصبغة تأملية فلسفية .
وبجانب أصحاب الإبداع الشعري ظهر مبدعون كثيرون في ميدان النثر الفني في العصر العباسي الثاني . ففي مطلع هذا العصر لمع اسم الجاحظ ( أبي عثمان عمرو بن بحر ) المتوفى بالبصرة سنة ( 255 هـ ، 869 م ) . والجاحظ إمام المنشئين في تاريخ الأدب العربي بلا جدال .
كان علي مذهب المعتزلة وكان موسوعي الثقافة متجدد الفكر . وقد ترك اسلوبه بصمات واضحة علي أساليب كثير ممن جاء بعده . ومؤلفات الجاحظ عديدة وذائعة , تنم عن ذهن ناضج وفكر متدفق . ومن أشهر كتبه كتاب ( الحيوان ) ( والبيان والتبيان ) و ( البخلاء ) . وله رسائل مختلفة طبعت تحت اسم ( رسائل الجاحظ ) , وهي تتناول موضوعات شتي . .
ومن ابرز الذين تأثروا بالجاحظ وحولوا أن ينهجوا نهجه أبو الفضل محمد بن العميد المتوفى سنة (360 هـ ، 971 م ) . و لتمكنه في فن الإنشاء عرف باسم ( الجاحظ الثاني ) , وهو الذي قيلت فيه العبارة المشهورة : ( بدئت الكتابة بعبد الحميد وانتهت بابن العميد ) .
وعبد الحميد هنا هو عبد الحميد بن يحي كاتب مروان ابن محمد أخر الخلفاء الأمويين , عاش ابن العميد في ظل البويهيين وعمل وزيرا لركن الدولة – الحسن ابن بويه – وكان – كما يصفه ابن خلكان – ( متوسعا في علوم الفلسفة والنجوم , وأما الأدب والترسل فلم يقاربه فيه احد في زمانه ) .
ويصفه ابن الأثير بأنه كان من محاسن الدنيا , قد اجتمع فيه مالم يجتمع في غيره من حسن التدبير وسياسة الملك , والكتابة التي أتى فيها بكل بديع ) .وقد صحب ابن العميد وتأثر به في طرائقه ( أبو القاسم إسماعيل ابن عباد ) المعروف بالصاحب ابن عباد . ولقب بالصاحب لصحبته لابن العميد , وكان يقال له أحيانا صاحب العميد . وقد تولي الصاحب بن عباد الوزارة لمؤيد لدولة بين ركن الدولة ثم لأخيه فخر الدولة . وفضلا عن براعة الصاحب في فن الإنشاء – كأستاذه ابن العميد – كان محبا للعلم ذواقة للأدب , كما كان شاعر جيد النظم . والجدير بالذكر هنا أن كلا من ابن العميد والصاحب بن عباد كان له مجلس يحفل بوجوه الشعراء والعلماء والمفكرين . وان من بين المترددين علي مجلس ابن العميد أبو الطيب المتنبي شاعر العربية الأكبر ,وقد مدحه بقصيده من عيون شعره . وتوفي الصاحب ابن عباد بمدينه الري في سنة ( 385 هـ ، 995 م ) .
ومن الذين تميزوا في مجال النثر الفني بديع الزمان الهمذاني ( وهو ابو الفضل احمد بن الحسين بن يحي ) الذي سكن هراه من بلاد خراسان وتوفي بها سنة ( 398 هـ ، 1008 م ) ,وكان ذلك في خلافة القادر بالله . وقد كتب بديع الزمان مقاماته الذائعة الصيت وأبدع فيها , وهو أول من استوي لي يده هذا الفن في اللغة العربية . وقد حذا حذوه ووصل بهذا الفن إلي مداه ( أبو محمد القاسم بن علي الحريري البصري الذي اعترف في صدر مقامات البديع مثالا له . وقد توفي الحريري في حدود سنة ( 516 هـ ، 1122م ) بالبصرة ابن فترة نفوذ السلاجقة , وذلك في خلافة المسترشد بالله . والملاحظ أن شهرة مقامات الحريري بلغت من الانتشار حدا تتضاءل بجانبه شهرة مقامات الحريري عن البراعة الكبيرة لصاحبها في التصرف في اللغة وتطويعها لما يريده من معان وأفكار , وهي احدي الوسائل المهمة لمن يبحثون عن إثراء ملكاتهم اللغوية .
والي جانب الإبداع الأدبي شعرا ونثرا تميز العصر العباسي الثاني بظهور الكثير من الموسوعات الأدبية التي مراجع أساسية لطلاب المعرفة في هذا المجال ، ونكتفي هنا بذكر أمثلة لأبرز هذه الموسوعات . وقد لمع في هذا الجانب ابن قتيبة الدينوري ( ابو محمد عبد الله بن مسلم ) الذي ولد بالكوفة وتثقف بها وسكن بغداد زمنا ولكنه نسب إلي الدينور لأنه تولي قضاءها . وقد توفي ابن قتيبه في سنة ( 276 هـ ، 889 م ) . في خلافه المعتمد علي الله .
وقد خلف لنا ابن قتيبة عددا من الموسوعات الأدبية المهمة يـأتي علي رأسها كتاب ( عيون الأخبار ) , وكتاب ( الشعر والشعراء ) . ومن كتبه الأدبية المهمة أيضا كتاب ( أدب الكاتب ) الذي يتحدث عما يحتاج إليه الأديب من فنون ألمعرفه ليمارس صنعه الكتابة علي الوجه الأمثل .ويعد أبو الفرج الأصفهاني من ابرز أصحاب الموسوعات الأدبية في هذا العصر . وقد كان ملازما للوزير المشهور أبي محمد حسن بن ألمهلبي وزير معز الدولة عند انتقاله إلي بغداد , كما ذكرنا ذلك في موضعه . ومما يحفظه التاريخ للمهبلي انه كان محبا للأدب مقربا لأهله , وكان يعرف لذوي القرائح الجيدة أقدارهم ويغدق عليهم من كرمه ورعايته . ومن هنا قرب أبا الفرج الأصفهاني ورعي مكانته . ولا شك أن موسوعة ( الأغاني ) للأصفهاني تعد من أهم الموسوعات الأدبية وأكثرها انتشارا وشمولا فيما يختص بتاريخ الأدب العربي والثقافة العربية حتى نحو منتصف القرن الرابع الهجري . وقد توفي أبو الفرج الأصفهاني في سنة ( 356 هـ ، 967 م ) .
ويتميز أيضا بين أصحاب الموسوعات الأدبية ( أبو منصور الثعالبي ) ( وهو عبدا لملك بن محمد ابن إسماعيل ) . ولد بنيسابور في سنة ( 350 هـ ، 961م ) وتوفي في سنة ( 429 هـ ، 1038 م ) , أي انه عاش حياته كلها في فترة نفوذ البويهيين , وشهدت فترة تفتحه الأدبي خلافة الطائع لله والقادر بالله , وتوفي في خلافة القائم بأمر الله . وكان الثعالبي غزير الإنتاج متنوع الاهتمامات العلمية , ولكن يقف علي رأس مؤلفاته جميعا كتابه الموسوعي الضخم ( يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر ) , وهو اكبر كتبه وأحسنها واجمعها كما يقول ابن خلكان , وهو من أربعة مجلدات صرف فيها جل اهتمامه لشعراء القرن الرابع الهجري ورتبهم علي أوطانهم , فقد تناول في أبواب خاصة شعراء الشام ومصروا لمغرب والموصل والبصرة وبغداد وأصفهان الجبل وفراس والأهواز و جرجان , وتحدث عن الدولة لساماني وشعرائها وعن خوارزم , وتحدث أيضا عن بني بويه وشعرائهم وكتابهم , وأسهب في لحديث عن ابن العميد والصاحب ابن عباد , كما تحدث عن بلاط سيف الدولة وشعرائه وكتابه . ولا شك أن يتيمة الدهر تعد احدي الموسوعات الأدبية الأساسية في تاريخ الأدب العربي , ولا تزال حتى يومنا هذا مصدر لا غني عنه للباحثين في الحياة الأدبية في القرن الرابع الهجري .
ولم تكن أنشطة البحث التاريخي بأقل حظا من الأنشطة الأدبية في دولة الخلافة العباسية في عصرها الثاني . وهذا مجال يطول فيه الكلام ويتشعب , ولا سبيل إلي استقصاء الحديث فيه ولكن اكتفي بتقديم النماذج الأبرز المؤرخين واهم أعمالهم التاريخية .
ويقف شامخا بين أعلام المؤرخين في صدر العصر لعباسي الثاني أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة ( 310 هـ ، 922م ) في خلافة المقتدر بالله . وقد عاش الطبري فترة التحول المهمة التي انتقلت فيها الخلافة العباسية من عصرها الأول – عصر القوة السياسية المركزية – إلي عصرها الثاني الذي بدأت السلطة المركزية فيه تضعف ضعفا ملحوظا .
وهكذا شهد الطبري معظم عصر نفوذ الأتراك وقد ولدفي أمل بطبرستان في سنة ( 224 هـ ، 839 م ) وأخذته الرحلة في طلب العلم إلي كثير من بقاع العلم الإسلامي كالعراق والشام ومصر , ثم استقر به المقام أخيرا في بغداد وبها مات ودفن , وقد ترك لنا الطبري موسوعته التاريخية الذائعة الصيت وهي : ( تاريخ الرسل والملوك )المشهورة باسم تاريخ الطبري ) , في عشرة مجلدات .
وتناول الطبري في هذه الموسوعة الضخمة تاريخ ما قبل الإسلام منذ بدء الخليقة بقدر من الاختصار في المجلد الأول وبض الثاني . ثم جاء علاجه المفصل للإحداث منذ بدا يتناول سيرة الرسول صلي الله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين , ما تلا ذلك من تاريخ الدولة الأموية والعباسية حتى عصره . وقد توقف الطبري بتاريخه عند أحداث سنة ( 302 هـ ، 914 ) في خلافة المقتدر . وتاريخ الطبري منجم غني بالمعلومات حافل بالروايات المختلفة التي تقدم المادة الأساسية للباحث .
وهناك إجماع في الشرق والغرب علي أن هذا التاريخ يعد عمدة الباحثين في التاريخ الإسلامي في القرون الثلاثة الأولي للهجرة .
ومن أعلام المؤرخين الذين ظهروا في القرن الثالث الهجري أيضا – بجانب الطبري – ابن قتيبة عبد الله بن مسلم ) المتوفى سنة ( 276 هـ ، 889 م ) وقد اشرنا ليه قبل ذلك عند حديثنا عن الموسوعات الأدبية . ومن ابرز الأعمال التاريخية التي تركها لنا ابن قتيبة كتاب( المعارف ) وينسب إليه أيضا كتاب ( الإمامة والسياسة ) .
كما ظهر اليعقوبي أيضا وهو احمد بن أبي يعقوب ابن واضح المتوفى نحو سنة ( 278 هـ ، 891 م ) . وكتابه المعروف ب ( تاريخ اليعقوبي ) من المصادر التاريخية الأساسية في تلك الفترة . وهو يقع في مجلدين , يتناول المجلد الأول التاريخ القديم حتى ظهور الإسلام , ويتناول الثاني تاريخ الإسلام حتى سنة (295 هـ ، 873 م) فهو يغطي ثلاث سنين من خلافة المعتمد علي الله . وبجانب التأليف التاريخي ألف اليعقوبي في الجغرافيا كتابا ذائعا هو ( البلدان ) الذي يعد من أقدم مصنفات التراث الجغرافي العربي .
وقد برز أيضا من مورخي تلك الفترة – وهي فترة نفوذ الأتراك في العصر العباسي الثاني – احمد بن يحي البلاذري وأبو حنيفة الدينوري . أما البلاذري فقد كان مقربا للخليفتين المتوكل والمستعين , وتوفي في حدود سنة ( 279 هـ ، 892 م ) ويعد كتابه ( فتوح البلدان ) من أوثق الكتب التي تحدثت عن تاريخ الفتوح الإسلامية منذ ظهور الإسلام حتى عصره , وهو يتميز بدقته في الأسلوب وموضوعيته في العرض والبعد عن الحشو , وهو من بين المصادر التي تحتل قيمة خاصة في هذا الجانب .
وللبلاذري كتاب أخر معروف هو ( انساب الإشراف ) وهو يقدم مادة تاريخية غزيرة في صدر الإسلام والعصر الأموي والعباسي الأول من خلال انساب الرجال الذين يتناولهم بالبحث .
وإما أبو حنيفة الدينوري المتوفى سنة ( 282 هـ ، 895 م ) فقد كان موسوعي المعرفة , برع في علوم كثيرة كالنحو واللغة والهندسة والفلك وغير ذلك , ولكن الكتاب الذي اشتهر به الدينوري هو كتابه التاريخي المعروف باسم ( الأخبار الطوال ) الذي يتناول فيه التاريخ الإسلامي منذ ظهور الإسلام حتى وفاة المعتصم سنة ( 227 هـ ، 842 م ) , مع مقدمة مختصرة عن التاريخ القديم .
وقد استمرت حركة التأليف التاريخي علي نشاطها وازدهارها طوال مراحل العصر العباسي الثاني . ومن ابرز المؤرخين الذين شهدوا بداية مرحلة النفوذ البويهي علي بن الحسين المسعودي المتوفى سنة ( 346 هـ ، 957 م ) . ومع أن المسعودي نشأ في بغداد فقد كان دائم الترحل في طلب العلم , وهو يقدم نموذجا للعالم الذي جعل العلم ضالته , فهو ينشده لكل ما أوتي من حول ما وسعه من صبر , فقد ذهب إلي الهند والملتان وسرنديب ( سيلان ) والصين , فضلا عن مراكز العلم الشهيرة فلي أرجاء العالم الإسلامي . ومن أشهر مؤلفاته التاريخية كتاب ( مروج الذهب ومعادن الجوهر) . وقد تناول فيه تاريخ الأمم القديمة , ثم تناول تاريخ الإسلام منذ ظهوره حتى خلافة المطيع لله ,ونهو أول الخلفاء العباسيين في العصر البويهي ومن بين الكتب التاريخية الذائعة للمسعودي أيضا كتاب ( التنبيه والأشراف ) , وهو محاولة منه لتقديم كتاب تاريخي مختصر يضم خلاصة ما كتب , وهو يحتوي علي معلومات مهمة من كتب أخري للمسعودي لم تصل إلينا .
ومن بين المؤرخين المتميزين في فترة النفوذ البويهي أيضا الخطيب البغدادي المتوفى سنة ( 463 هـ ، 1071 م ) , وهو ( أبو بكر احمد بن علي بن ثابت ) . وقد عاش في بغداد التي ينسب إليها ومات بها , ولكنه رحل طلبا للعلم إلي عدة مراكز علمية بالرزة كالبصرة والكوفة ونيسابور وحلب وبيت المقدس وغيرها . وهو يتميز بغزارة إنتاجه وتنوع اهتماماته العلمية , حيث ألف في فروع مختلفة من العلم كالتاريخ والفقه والحديث والنحو والأدب وغيرها . ومعظم مؤلفاته لم تصل إلينا , ولكن موسوعته الضخمة المعروفة باسم ( تاريخ بغداد ) وصلت إلينا وهي التي أكسبته شهرة واسعة , وهي تاريخ شامل لبغداد من حيث نشأتها واحياؤها وقصورها ومختلف معالمها , فضلا عن تراجم إعلامها من رجال السياسة والعلم والأدب وغير ذلك . ومن هنا تعد هذه الموسوعة مصدرا لا غني عنه للباحثين في تاريخ الخلافة العباسية منذ نشأتها حتى بداية العصر السلجوقي .
وقد لمع عدد أخر من المؤرخين في المراحل المتأخرة من العصر العباسي الثاني , لعل أبرزهم عز الدين بن الأثير المتوفي سنة ( 630 هـ ، 1233م ) , و هو صاحب الموسوعة التاريخية الضخمة المعروفة باسم ( الكامل بالتاريخ ) , وتقع في ثني عشر مجلدا . وقد حذا فيها حذو الطبري في تاريخه , وتوقف في روايته التاريخية عند إحداث سنة ( 628 هـ ، 1231 م ) . وقد شهد ابن الأثير نهاية فترة النفوذ السلجوقي وعاش شطرا من حياته في فتره ما بعد السلاجقة , وعاصر مرحلة مهمة في تطور الحروب الصليبية إبان سلطنة صلاح الدين الأيوبي , فكتابه إذن من بين المصادر الرئيسة في تاريخ الحروب الصليبية . ويمكننا أن نقول أن موسوعة الكامل بالتاريخ لابن الأثير تحتل بين مصادر التاريخ الإسلامي مكانة لا يسبقها إلا موسوعة تاريخ الطبري . ولابن الأثير مؤلفات أخري في غاية الأهمية لعل أبرزها ( أسد الغابة في معرفة الصحابة ) , وهو موسوعة من سبعة مجلدات يتناول فيها تراجم صحابة رسول الله صلي الله علية وسلم .
ونستطيع أن نمضي طويلا في تناولنا لمختلف جوانب النهضة الثقافية في دول الخلافة العباسية في عصرها الثاني , وهي جوانب لا يتسع المجال للحديث التفصيلي عنها هنا , ولكننا نكتفي بالقول بأن هذه النهضة الثقافية غطت كل مظاهر المعرفة والفن التي عرفت في ذلك الزمان , فقد شهدت دولة الخلافة العباسية وثبة رائعة في الثقافة الجغرافية , وعرف التراث الحضاري العباسي جغرافيين أفذاذ كاليعقوبي صاحب البلدان , وقد اشرنا إليه , والاصطخري من علماء القران القرن الرابع الهجري , وهو صاحب كتاب ( مسالك الممالك ) , وابن حوقل والمقدسي وهما من علماء القرن الرابع الهجري أيضا وللأول كتاب ( المسالك والممالك وللثاني كتاب ( أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ) , وهو من الكتب المتميزة في هذا الفن .
ولعل من أشهر الجغرافيين في دولة الخلافة العباسية ياقوت الحموي المتوفى سنة ( 626 هـ ، 1229 م ) وقد ولد في حماة كما يبدو من نسبته , ولكنه عاش في بغداد . ومجمعه الجغرافي المعروف باسم ( معجم البلدان ) يعد من أغزر المصادر في مادة التراث الجغرافي الإسلامي علي الإطلاق , وهو يقع في خمسة مجلدات ضخمة .
كما شهد هذا العصر أيضا نهضة لا تداني في الدراسات العقلية والفلسفية والكلامية . ونبغ في هذا المجال أعلام يحتلون مكانة سامقة في تاريخ الفكر الإنساني كله , فمن بين هؤلاء الفيلسوف الكبير الفارابي المتوفى سنة ( 339 هـ ، 950 م ) في مطلع العصر البويهي . وهو صاحب كتاب ( إحصاء العلوم ) وكتاب ( السياسة المدنية ) وغير ذلك .
علي أن ابرز هؤلاء هو الشيخ الرئيس ابن سيناء المتوفى سنة ( 428 هـ ، 1037 م ) . وقد عاش شطرا من حيات في بخاري في ظل الدولة السامانية .
بالإضافة إلي مؤلفاته الطبية الفائقة , وفي مجال الدفاع العقلي عن الإسلام والرد علي مناوئيه برز اسم حجة الإسلام ( أبي حامد الغزالي ) المتوفى سنة ( 505 هـ ، 1111م ) وهو الذي ناضل الفلاسفة و كتب عن تهافتهم كتابه المعروف ((تهافت الفلاسفة)) 0وقد باشر " الغزالي " التدريس في المدرسة النظامية ببغداد والمدرسة النظامية بالنيسابور . وكتابة ( إحياء علوم الدين ) من أعظم الكتب التي عرضت الإسلام عرضا بسيطا مقنعا مؤثرا . ونظرا لقوة تأثير هذا الكتاب قال البعض : ( من لم يقرا الأحياء فليس من الأحياء ) .
قد حظيت العلوم الطبية والرياضية والفلكية والطبيعية بنصيب وافر من العناية والدراسة في هذا العصر الحافل بالعطاء الحضاري . بل أن فن الموسيقي أيضا وجد له مجالا من الاهتمام . والملاحظ أن الفلاسفة العظام , أمثال الفراربي وابن سيناء , كانوا يحذقون الطب والرياضة والفلك بل والموسيقي أيضا . ويعتبر ( أبو بكر محمد بن زكريا الرازي ) أعظم الأطباء المسلمين في هذا العصر علي الإطلاق . وله كتاب ( الحاوي ) في الطب , الذي يمكن اعتباره عمدة هذا العلم في العصور الوسطي في الشرق والغرب . وقد حظي الرازي برعاية ملوك الدولة السامانية , وتوفي في حوالي سنة ( 320 هـ ، 932 م ) . أما ( ابن سيناء ) فقد كتب ( القانون ) في الطب , وهو الذي كان مع كتاب ( الحاوي ) للرازي من الأسس المهمة التي اعتمدت عليها أوربا في عصر النهضة . وبعد هذا اللمحة الموجزة عن أهم جوانب النهضة الثقافية في العصر العباسي الثاني نستطيع أن نقول هذه النهضة كانت متكاملة الجوانب . وهذا هو شأن الحضارات العظيمة , فالحضارة روح تعود بالصحة والعافية علي جسد الأمة كله فتتوازن في ملامح الاكتمال . وقد كان ابرز ما يميز تلك الفترة هي الرغبة العارمة في العلم والتعطش للمعرفة . ومن هنا وجدنا أصحاب الثقافات الموسوعية الذين اشرنا إلي بعضهم . والملاحظة أن حب العلم ولتنافس في سبيله جعل الحكام والأمراء يحتضنون وينصبون من أنفسهم حماة له . وهكذا ظهرت مجالس العلم المعروفة علي يد قادة أمراء وجدوا في هذا النشاط سلما للمجد والسؤدد . والأمثلة علي ذلك كثيرة . فهذا سيف الدولة الحمداني يجعل من مجلسة محفلا للعلماء والأدباء والشعراء . وهذا عضد الدولة البويهي يفعل الشئ نفسه , وفعل ذلك أيضا السلطان الغزنوى , ونظام الملك أعظم وزراء السلاجقة , وغيرهم . وكل هذا عاد بالخير العميم علي الحركة الثقافية في هذا العصر , فإذا هي تفيض قوة ونشاط وتجدد .
وختاماً ..
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين . وبعد
قدمت في هذا البحث صورة عن أهمية الجانب الثقافي في الدولة العباسية الثانية ، وعلى الرغم مما ذكرت في هذا البحث أن هذا العصر شهد الكثير من الأزمات والمشاكل السياسية إلا أنه كان زاخراً في العلوم والآداب فشهد هذا العصر تميزاً علمياً وأدبيا كثيفاً .
وأتمنى أن أكون قد نجحت في تقديم صورة علمية مميزة وثرية ومعلومة مفيدة وقيمة .
والحمد لله الذي أعز أمة الإسلام بالعلم والإيمان .
والحمد لله رب العالمين
المصادر
موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي
العصر العباسي في العراق والمشرق ( 132 – 656 هـ )
تأليف :
أ . د حسن علي حسن ( أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة القاهرة )
د . عبدالرحمن سالم ( مدرس التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة القاهرة )