لمحتويات
مقدمة
مقدمة للطبعتين الفرنسية والألمانية
الفصل الأول: الاحتكارات وتمركز الإنتاج
الفصل الثاني: البنوك ودورها الجديد
الفصل الثالث: الرأسمال المالي والطغمة المالية
الفصل الرابع: تصدير الرأسمال
الفصل الخامس: اقتسام العالم بين اتحادات الرأسماليين
الفصل السادس: اقتسام العالم بين الدول الكبرى
الفصل السابع: الإمبريالية مرحلة خاصة في الرأسمالية
الفصل الثامن: طفيلية الرأسمال وتعفنها
الفصل التاسع: انتقاد الإمبريالية
الفصل العاشر: مكان الإمبريالية في التاريخ
مقدمة
هذا الكتاب الذي أعرضه على أنظار القراء وضعته بمدينة زوريخ في ربيع سنة 1916. وفي ظروف عملي هناك عانيت، بطبيعة الحال، من بعض النقص في الكتب الفرنسية والإنجليزية ومن نقص كبير جدا في الكتب الروسية. ولكني قد استفدت، على كل حال، من المؤلف الإنجليزي الرئيسي بصدد الإمبريالية – كتاب ج. ا. هوبسون – بكل الانتباه الذي يستحقه هذا المؤلف حسب اعتقادي.
وقد وضعت الكتاب آخذا بعين الاعتبار الرقابة القيصرية. ولذا كنت مضطرا إلى الاقتصار بدقة على التحليل النظري وحده – ولاسيما الاقتصادي – وكذلك إلى منتهى الحذر في صياغة الملاحظات الضرورية غير الكثيرة بصدد السياسة، أي بالتلميح، بلغة لقمان، تلك اللغة الرمزية اللعينة التي كانت القيصرية تضطر جميع الثوريين إلى اللجوء إليها كلما أخذوا القلم لوضع كتاب «علني».
ومن المؤلم الآن، في أيام الحرية، أن أعيد قراءة مقاطع الكتاب التي شوهها التفكير في الرقابة القيصرية، المقاطع المكبوكة، المضغوطة كأنما في ملزمة من حديد. فلكيما أبين أن الامبريالية هي عشية الثورة الاشتراكية، وأن الاشتراكية-الشوفينية (الاشتراكية قولا والشوفينية فعلاً) هي خيانة تامة للاشتراكية وانتقال تام إلى جانب البرجوازية، وأن انقسام حركة العمال هذا منوط بظروف الامبريالية الموضوعية وغير ذلك، اضطرت إلى أن أتحدث بلغة «العبد»، ولذا أراني مضطرا إلى إحالة القارئ الذي تهمه المسألة إلى مجموعة مقالاتي التي كتبتها في الخارج سنوات 1914-1917 والتي سيعاد نشرها قريبا. ولابد من الإشارة الخاصة إلى مقطع من مقاطع الكتاب في الصفحتين 119-120*: لكيما أبين للقارئ بشكل تقبله الرقابة كيف يكذب دون خجل الرأسماليون وكذلك الاشتراكيون-الشوفينيون الذين انتقلوا إلى جانبهم (والذين لا يناضل كوتسكي ضدهم بالاستقامة اللازمة) في مسألة الإلحاق، وكيف يسترون دون خجل على الحاقات رأسمالييـهم، كنت مضطرا لأن أضرب مثلا… اليابان! ومن اليسير على القارئ الفطن أن يستعيض عن اليابان بروسيا وعن كوريا بفنلنده وبولونيا وكرولانده وأكرانيا وخيوه وبخارى وأستلنده وغيرها من المقاطعات التي يقطنها غير الروس.
وأود أن آمل بأن يساعد كتابي على تفهم المسألة الاقتصادية الأساسية التي لا يمكن بدون دراستها فهم شيء في تقدير الحرب المعاصرة والسياسة المعاصرة، نعني مسألة كنه الامبريالية الاقتصادي.
المؤلف
بتروغراد 26 أبريل 1917
--------------------------------------------------------------------------------
(*) راجع هذا الكتاب، ص 565. الناشر
مقدمة للطبعتين الفرنسية والألمانية
1
وضعت الكتاب الحالي، كما أشرت في مقدمة الطبعة الروسية، سنة 1916، آخذا الرقابة القيصرية بعين الاعتبار. وليس بإمكاني أن أعدل النص بأكمله في الوقت الحاضر؛ وأحسب أن ذلك أمر عديم الجدوى، لأن مهمة الكتاب الأساسية كانت ولا تزال: أن يبين، بموجب مجمل أرقام الإحصاءات البرجوازية التي لا تقبل الجدل وبموجب اعترافات العلماء البرجوازيين في جميع البلدان، كيف كانت، في بدء القرن العشرين، قبيل الحرب الإمبريالية العالمية الأولى، الصورة الإجمالية للاقتصاد الرأسمالي العالمي ضمن علاقاته العالمية.
ومن ناحية أخرى سيكون من المفيد للكثيرين من الشيوعيين في البلدان الرأسمالية المتقدمة أن يتأكدوا، على مثال هذا الكتاب العلني من وجهة نظر الرقابة القيصرية، من إمكانية – بله ضرورة – الاستفادة حتى من القدر الطفيف من بقايا العلنية التي ما تزال باقية للشيوعيين، لنقل مثلا في أمريكا أو في فرنسا المعاصرتين بعد اعتقال الشيوعيين بمجموعهم تقريبا من عهد قريب؛ وذلك لتبيان كل بطلان نظرات الاشتراكيين المسالمين وعقدهم الآمال على «ديموقراطية عالمية». وسأحاول، في هذه المقدمة، إعطاء ما لا بد منه من إضافات على هذا الكتاب الخاضع للرقابة.
2
لقد برهن في هذا الكتاب على أن حرب سنوات 1914-1918 كانت من جانب الطرفين حريا امبريالية (أي حرب غزو ونهب واغتصاب)، حربا من أجل تقاسم العالم، من أجل اقتسام وإعادة اقتسام المستعمرات و«مناطق نفوذ» الرأسمال المالي والخ.
إذ أن الدليل على طابع الحرب الاجتماعي الحقيقي، أو بالأصح: على طابعها الطبقي الحقيقي، لا يكمن طبعا في تاريخ الحرب الديبلوماسي، بل في تحليل الحالة الموضوعية للطبقات المسيطرة في جميع الدول المتحاربة. ولتصوير هذه الحالة الموضوعية لا ينبغي أخذ أمثلة أو أدلة منعزلة (فرغم كون ظواهر الحياة الاجتماعية في منتهى التعقيد يمكن على الدوام إيجاد أي قدر من الأمثلة أو الأدلة المنعزلة لتعليل أي فكرة)، بل ينبغي حتما أخذ مجمل الأدلة عن أسس الحياة الاقتصادية في جميع الدول المتحاربة وفي العالم كله.
وهذه الأدلة الاجتماعية التي لا تدحض، هي بالضبط، ما ذكرته في لوحة تقاسم العالم في سنتي 1876 و1914 (الفقرة السادسة) وفي لوحة توزيع السكك الحديدية في العالم أجمع في سنتي 1890 و1913 (الفقرة السابعة). فالسكك الحديدية هي حاصل جميع الفروع الرئيسية في الصناعة الرأسمالية، صناعة الفحم الحجري والتعدين؛ هي حاصل وأكثر مقاييس تطور التجارة العالمية والحضارة البرجوازية الديموقراطية جلاء. وقد بينت فصول الكتاب السابقة كيف تتصل السكك الحديدية بالإنتاج الكبير، بالاحتكارات وبالسنديكات وبالتروستات وبالبنوك وبالطغمة المالية. إن توزيع خطوط السكك الحديدية وتفاوته وتفاوت تطورها هو حاصل الرأسمالية الاحتكارية الحديثة على النطاق العالمي. وهذا الحاصل يظهر في الحروب الإمبريالية هي أمر محتوم تماما على هذا الأساس الاقتصادي، طالما بقيت وسائل الإنتاج ملكا خاصا.
يبدو مد السكك الحديدية أمرا بسيطا وطبيعيا وديموقراطيا وثقافيا وتمدنيا، وهو يبدو كذلك في عيون الأساتذة البرجوازيين الذين تدفع لهم الأجور لكيما يجملوا وجه العبودية الرأسمالية، وفي عيون البرجوازيين الصغار التافهين الضيقيي الأفق. أما في الواقع فإن الخيوط الرأسمالية التي تربط بألوف الشباك هذه المشاريع بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج بوجه عام قد جعلت من مد السكك الحديدية أداة لاضطهاد مليار من الناس (أشباه المستعمرات إضافة إلى المستعمرات)، أي لاضطهاد أكثر من نصف سكان الأرض في البلدان التابعة، وعبيد الرأسمال الأجراء في البلدان «المتمدنة».
إن الملكية الخاصة القائمة على عمل صغار أصحاب الأعمال، والمزاحمة الحرة، والديموقراطية – إن جميع هذه الشعارات التي يخدع بها الرأسماليون وصحافتهم العمال والفلاحين قد اندرجت بعيدا في طيات الماضي. لقد آلت الرأسمالية إلى نظام عالمي لاضطهاد الأكثرية الكبرى من سكان الأرض استعماريا وخنقها ماليا من قبل حفنة من البلدان «المتقدمة». ويجري اقتسام هذه «الغنيمة» بين ضاريين أو ثلاث ضوار أقوياء في النطاق العالمي، مسلحين من الرأس حتى أخمص القدمين (أمريكا وانجلترا واليابان) يجرون الأرض كلها إلى حربـهم من أجل اقتسام غنيمتـهم.
3
إن صلح بريست-ليتوفسك الذي أملت شروطه ألمانيا الملكية، ومن بعده صلح فرساي الأكثر وحشية وحطة والذي أملت شروطه الجمهوريتان «الديموقراطيتان»، أمريكا وفرنسا، وكذلك إنجلترا «الحرة» قد قدما للبشرية خدمة نافعة جدا إذ فضحا الكتبة الخدم المأجورين للإمبريالية وكذلك البرجوازيين الصغار الرجعيين الذين، وإن كانوا يخلعون على أنفسهم ألقاب المسالمين والاشتراكيين، فإنهم يمتدحون «الولسونية» ويبرهنون على إمكان السلام والإصلاحات في ظل الإمبريالية.
إن عشرات الملايين من الجثث والمشوهين الذين تركتهم الحرب التي أضرمت نيرانها لتعيين ما إذا كانت الزمرة الإنجليزية أو الألمانية من قطاع الطرق الماليين ينبغي أن تنال حصة الأسد من الغنيمة، ثم «معاهدتي الصلح» هاتين، تفتح بسرعة لم تعهد من قبل عيون الملايين وعشرات الملايين من الناس الذين ظلمتهم البرجوازية وسحقتهم وخدعتهم وضللتهم. وعلى صعيد الخراب العالمي التي لا يمكنها أن تنتهي إلى غير الثورة البروليتارية وظفرها، مهما كانت طويل وقاسية تقلبات الأحوال التي لا بد لهذه الأزمة أن يجتازها.
إن بيان بال الصادر عن الأممية الثانية والذي أعطى، في سنة 1912، تقديرا لتلك الحرب التي اندلعت في سنة 1914 بالضبط، لا تقديرا للحرب بوجه عام (فالحروب تختلف ومنها ما تكون ثورية)، أن هذا البيان قد بقي أثرا للذكرى يعزي بصورة تامة إفلاس أبطال الأممية الثانية المشين وارتدادهم.
ولذلك أعيد نشر هذا البيان في ملحق لهذه الطبعة وألفت نظر القارئ مرة أخرى إلى أن أبطال الأممية الثانية يتجنبون بحذر مقاطع البيان التي تتحدث بصورة دقيقة ,واضحة ,وصريحة بالضبط عن صلة الحرب المقبلة بالثورة البروليتارية، يتجنبونها بنفس حذر اللص في تجنب المكان الذي ارتكب فيه السرقة.
4
في هذا الكتاب وجه انتباه خاص لانتقاد «الكاوتسكية»، وهي تيار فكري عالمي يمثله في جميع بلدان العالم «كبار النظريين»، زعماء الأممية الثانية (في النمسا أوتو باور وشركاه وفي إنجلترا رمسي ماكدونالد وغيره وفي فرنسا البير توما وهلم جرا والخ.) وجمهور من الاشتراكيين والإصلاحيين والمسالمين والديموقراطيين البرجوازيين والكهنة.
وهذا التيار الفكري هو، من ناحية، نتاج فساد وتقيح الأممية الثانية وهو، من الناحية الأخرى، نتاج محتوم لإيديولوجية صغار البرجوازيين الذين يبقيهم وضع حياتهم بأكمله في أسر الأوهام البرجوازية والديموقراطية.
إن أمثال هذه النظرات عند كاوتسكي ومن على شاكلته هي ارتداد تام بالضبط عن الأسس الماركسية الثورية التي دافع عنها هذا الكتاب عشرات من السنين، ولاسيما – ونقول ذلك بالمناسبة – في النضال ضد الانتهازية الاشتراكية (لبرينشتين وميليران وهايندمان وغومبرس وهلم جراً). ولذلك ليس من باب الصدفة أن اتحد «الكاوتسكيون» الآن مع الانتهازيين المتطرفين في العالم أجمع عمليا وسياسيا (عن طريق الأممية الثانية أو الصفراء) ومع الحكومات البرجوازية (عن طريق الحكومات البرجوازية الائتلافية التي يساهم فيها الاشتراكيون).
إن الحركة البروليتارية الثورية بوجه عام والشيوعية بوجه خاص، هذه الحركة المتنامية في جميع أنحاء العالم، لا غنى لها عن تحليل وفضح الأخطاء النظرية التي تقترفها «الكاوتسكية». وهذا لا ندحة عنه لاسيما وأن النزعة المسالمة و«الديموقراطية» بوجه عام اللتين لا تدعيان بالماركسية إطلاقا، ولكنهما، شأن كاوتسكي وشركاه سواء بسواء، تطمسان عمق تناقضات الامبريالية وحتمية الأزمة الثورية التي تنشأ عنها، هما تياران ما زالا منتشرين لأقصى حد في العالم كله. والنضال ضد هذين التيارين هو أمر إلزامي لحزب البروليتاريا الذي يتوجب عليه أن ينتزع من البرجوازية صغار أصحاب الأعمال والملايين من الشغيلة المخدوعين بها والذين تحيط بهم لهذا الحد أو ذاك ظروف حياة البرجوازية الصغيرة.
5
ولابد من بعض كلمات عن الفصل الثامن: «طفيلية الرأسمالية وتعفنها». إن هيلفردينغ، «الماركسي» سابقا وزميل كاوتسكي اليوم وأحد الممثلين الرئيسيين للسياسة البرجوازية الإصلاحية في «الحزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني المستقل»، قد خطا، كما سبق وأشرنا في متن هذا الكتاب، خطوة إلى الوراء في هذه المسألة بالمقارنة مع المسالم والإصلاحي الإنجليزي المكشوف هوبسون. فالانقسام العالمي لحركة العمال بأكملها قد تكشف الآن على أتمه (الأمميتان الثانية والثالثة). وقد تكشف كذلك واقع النضال المسلح والحرب الأهلية بين الاتجاهين: المناشفة و«الاشتراكيون-الثوريون» في روسيا يؤيدون كولتشاك ودينيكين ضد البلاشفة؛ وأنصار شيدمان ونوسكه وشركاه في ألمانيا هم مع البرجوازية ضد السبارتاكيين، والشيء نفسه في فنلندة وبولونيا والمجر الخ.. فما هو، إذن، الأساس الاقتصادي لهذه الظاهرة التاريخية العالمية؟
إنه يتلخص بالضبط في الطفيلية والتعفن الملازمين للرأسمالية في أعلى مراحلها التاريخية، أي في مرحلة الإمبريالية. فالرأسمالية، كما برهن في الكتاب الحالي، قد أبرزت الآن حفنة (أقل من عشر سكان الأرض، وفي أبعد حالة «للتسامح» والمغالات في التقدير، أقل من الخمس) من الدول في منتهى الغنى والقوى تنهب العالم كله بمجرد (قص الكوبونات). إن تصدير الرأسمال يعطي دخلا يتراوح بين 8 و10 مليارات فرنك في السنة حسب أسعار ما قبل الحرب وحسب إحصاءات البرجوازية لما قبل الحرب. والآن أكثر جدا بطبيعة الحال.
وواضح أن هذا الربح الإضافي الهائل (إذ أنه يبتز إضافة إلى الربح الذي يعتصره الرأسماليون من عمال بلاد«ـهم») يمكن من رشوة زعماء العمال والفئة العليا التي تكون أريستوقراطية العمال. والرأسماليون في البلدان «المتقدمة» يرشون هذه الفئة، بآلاف الطرق، المباشرة وغير المباشرة العلنية والمستورة. إن هذه الفئة من العمال المتبرجزين أو «اريستوقراطية العمال»، الذين هم برجوازيون صغار تماما بنمط حياتهم ومقاييس أجورهم وبكامل نظرتهم للعالم، هي سند الأممية الثانية الرئيسي، وفي أيامنا سند البرجوازية الاجتماعي (لا العسكري) الرئيسي. لأن هؤلاء عملاء حقيقيون للبرجوازية في حركة العمال، متعهدون عمال في خدمة طبقة الرأسماليين (Labor lieutenants of the capitlistes class) وسائط حقيقية لنقل الإصلاحية والشوفينية. وأثناء الحرب الأهلية بين البروليتاريا والبرجوازية يقف هؤلاء حتما بعدد كبير إلى جانب البورجوازية، إلى جانب «الفورسالين» ضد «الكومونيين».
وإذا لم يدرك المرء الجذور الاقتصادية لهذه الظاهرة. إذا لم يقدر أهميتها السياسية والاجتماعية حق قدرها لا يستطيع أن يخطو خطوة في ميدان حل المهام العملية التي تواجه الحركة الشيوعية والثورة الاجتماعية المقبلة.
الإمبريالية عشية الثورة الاجتماعية البروليتارية. وقد ثبت ذلك منذ سنة 1917 في النطاق العالمي.
6 يوليو 1920
ن. لينين
الفصل الاول
الاحتكارات وتمركز الإنتاج
أثناء السنوات الخمس عشر أو العشرين الأخيرة، ولاسيما بعد الحرب الاسبانية-الأمريكية 1898 والحرب الانجليزية-البويرية (1899-1902) أخذ الآداب الاقتصادية وكذلك السياسية في العالمين القديم والجديد يتطرق أكثر فأكثر إلى مفهوم «الإمبريالية» لوصف العصر الذي نجتازه. ففي سنة 1902 صدر في لندن ونيويورك مؤلف اقتصادي إنجليزي هوبسون عنوانه: «الإمبريالية». والمؤلف، المتمسك بوجهة نظر النزعة البرجوازية للاشتراكية الإصلاحية والمسالمة، وهي وجهة نظر لا تختلف، في الجوهر، عن الموقف الذي يقفه حاليا الماركسي السابق كاوتسكي، قد أعطى وصفا ممتازا مفصلا لخواص الإمبريالية الاقتصادية والسياسية الأساسية. وفي سنة 1910 صدر في فيينا مؤلف الماركسي النمساوي رودولف هيلفردينغ عنوانه: «الرأسمال المالي» (الترجمة الروسية: موسكو، سنة 1912). إن هذا الكتاب، رغم غلطة المؤلف في مسألة نظرية النقود وميله بعض الشيء إلى التوفيق بين الماركسية والانتهازية، عبارة عن تحليل نظري قيم للغاية «لأحدث المراحل في تطور الرأسمالية» كما ينص العنوان الثانوي لمؤلف هيلفردينغ. إن ما قيل في السنوات الأخيرة عن الامبريالية، ولاسيما في العدد الكبير من مقالات المجلات والجرائد في هذا الموضوع وكذلك في القرارات، مثلا، مؤتمري خيمنيتز وبال المعقودين في خريف سنة 1912، لم يتعد، في الجوهر، دائرة الأفكار التي عرضها أو، بالأصح، التي لخصها المؤلفان المذكوران…
وسنسعى فيما يأتي لنعرض، بإيجاز وبأبسط شكل ممكن، صلة وتفاعل خواص الإمبريالية الأساسية. ولن نتطرق إلى الناحية غير الاقتصادية في المسألة مهما كانت جديرة بذلك. أمّا أسماء الكتب التي استشهدنا بها والملاحظات الأخرى التي قد لا تهم جميع القراء فنحيلها إلى آخر الكتاب.
--------------------------------------------------------------------------------
إن نمو الصناعة الهائل والسرعة الكبرى في سير تمركز الإنتاج في مشاريع تتضخم باستمرار هما خاصة من أخص خصائص الرأسمالية. وتعطي الإحصاءات الصناعية الحديثة عن هذا السير أكمل المعلومات وأضبطها.
ففي ألمانيا، مثلا، كان يوجد بين كل ألف مشروع صناعي في سنة 1882 - 3 وفي سنة 1895 - 6 وفي سنة 1907 - 9 من المشاريع الكبرى، أي التي يعمل فيها أكثر من 50 من العمال الأجراء. وكانت حصتها في كل مئة عامل 22 ، 30 و37. ولكن تمركز الإنتاج أقوى جدا من تمركز العمال، لأن العمل في المشاريع الكبرى ذو إنتاجية أكبر جدا. وهذا ما تبنته الأرقام الخاصة بالماكينات البخارية والمحركات الكهربائية. فإذا أخذنا ما يسمى في ألمانيا الصناعة بمعنى الكلمة الواسع أي بما في ذلك التجارة وطرق المواصلات الخ.، حصلنا على الصورة التالية: المشاريع الكبرى 30588 من 3265623، أي 0.9% فقط. ولديها من العمال.5 ملايين و 700 ألف من 14 مليونا و400ألف أي 39.4%؛ ولديها 6ملايين و 600ألف حصان بخاري من 8 ملايين و 800ألف ، أي 75.3%؛ و1.2 مليون كيلواط من الطاقة الكهربائية من 1.5 مليون أي 77.2%.
في حوزة أقل من 1% من المشاريع أكثر من 75% من مجموع كمية الطاقة البخارية والكهربائية! وثمة 297 ألف من المشاريع الصناعية الصغيرة (حتى 5 من العمال الأجراء) تؤلف 91% من مجموع المشاريع لا تزيد حصتها عن 7% من مجموع الطاقة البخارية والكهربائية! عشرات الألوف من المشاريع الكبرى – كل شيء؛ والملايين من المشاريع الصغرى – لاشيء.
في سنة 1907 كان في ألمانيا 576 من المشاريع يشتغل في كل منها ألف عامل وما فوق. وكان لديها نحو عُشر مجموع عدد العمال (1370000) ونحو ثلث (32%) من مجموع الطاقة البخارية والكهربائية(1). وسنرى أن الرأسمال النقدي والبنوك تجعل تفوق هذه الحفنة من المشاريع الكبرى ساحقا لدرجة أكبر، ساحقا بالمعنى الحرفي للكلمة، أي أن الملايين من «أصحاب الأعمال» الصغار والمتوسطين وحتى قسما من الكبار يجدون أنفسهم في الواقع مستعبدين بصورة تامة لبضع مئات من الماليين أصحاب الملايين.
ونمو تمركز الإنتاج أشد في بلد متقدم آخر من بلدان الرأسمالية الحديثة، في الولايات المتحدة بأمريكا الشمالية. في هذه البلاد تتعمد الإحصاءات إبراز الصناعة بمعنى الكلمة الضيق وتصنيف المشاريع حسب مقادير قيمة الإنتاج السنوي. ففي سنة 1904 وجد من المشاريع الضخمة التي يبلغ إنتاج كل منها مليون دولار وما فوق 1900 (من 216180، أي 0.9%) لدينا 1.4 مليون من العمال (من 5.5 مليون، أي 25.6%) وقيمة إنتاجها 5.6 مليارات (من 14.8 مليار، أي 38%). وبعد مضي خمس سنوات، في سنة 1909، كانت الأرقام على النحو التالي: 3060 مشروعا (من 278491، أي 1.1%) لديها من العمال مليونان (من 6.6 مليون، أي 30.5%) وقيمة إنتاجها 9 مليارات (من 20.7 مليار، أي 43.8%)(2).
إن نحو نصف مجموع ما تنتجه جميع المشاريع في البلاد في أيدي جزء من مئة جزء من مجموع عدد المشاريع! وهذه المشاريع العملاقة الثلاثة آلاف تشمل 258 من فروع الصناعة. ويتضح من ذلك أن التمركز، عند درجة معينة من تطوره، يوصل بحد ذاته إلى الاحتكار، ويمكن القول، إلى الاحتكار عن كثب. لأن من السهل على بضع عشرات من المشاريع العملاقة أن تتفق فيما بينها: ومن الجهة الأخرى، أن إعاقة المزاحمة والميل إلى الاحتكار ينشآن بالضبط عن ضخامة حجم المشاريع. وصيرورة المزاحمة والميل إلى الاحتكار هي ظاهرة من أهم الظواهر – إن لم تكن الأهم – في اقتصاد الرأسمالية الحديثة، وينبغي علينا أن نتناولها بمزيد من التفصيل. ولكن ينبغي علينا في بادئ الأمر أن نزيل ما قد يمكن من سوء الفهم.
تقول الإحصاءات الأمريكية: 3000 من المشاريع العملاقة في 250 من الفروع الصناعية. وقد يتبادر إلى الذهن كأن هناك 12 من المشاريع العملاقة فقطفي كل فرع.
ولكن الأمر ليس كذلك، فالمشاريع الكبيرة لا توجد في كل فرع من فروع الصناعة؛ ومن الجهة الأخرى، أن من أهم خواص الرأسمالية التي بلغت أعلى مراحل تطورها ما يسمى بالتركيب، أي تجمع في مشروع واحد لفروع صناعية مختلفة تؤلف إمّا درجات متوالية من تلييف الخدمات (مثلا: صهر معدن الحديد وتحويل الزهر إلى فولاذ أو ربما كذلك إنتاج هذه أو تلك من المصنوعات الجاهزة من الفولاذ)، وأمّا أن يقوم احدها بدور مساعد للآخر (مثلا: الاستفادة من الفضلات أو من المنتوجات الثانوية؛ إنتاج مواد التعبئة، الخ.).
وقد كتب هيلفردينغ: «التركيب يسوي اختلافات الأحوال في الأسواق، لذلك يضمن للمشاريع المركبة معدلا من الربح أكثر ثباتا، والتركيب يفضي، ثانيا، إلى إزاحة التجارة. وهو، ثالثا، يجعل من الامكان الرقي التكنيكي، وبالتالي الحصول على ربح إضافي بالمقارنة مع المشاريع «الساده» (أي غير المركبة). وهو، رابعا، يعزز موقف المشروع المركب بالمقارنة مع «الساده»، إذ يقويه في صراع المزاحمة في حالة انحطاط قوي (ركود في الأعمال، أزمة)، عندما يكون انخفاض أسعار الخدمات أقل من انخفاض أسعار المنتوجات الجاهزة»(3).
إن الاقتصاد البرجوازي الألماني هيمان الذي كرس مؤلفا خاصا لوصف المشاريع «المختلطة» أي المركبة – في صناعة التعدين الألمانية يقول: «تهلك المشاريع الساده مسحوقة بين ارتفاع أسعار الخدمات وانخفاض أسعار المنتوجات الجاهزة». ويكون الحاصل الصورة التالية:
«لقد بقيت، من جهة، كبريات شركات الفحم الحجري التي تستخرج من الفحم عدة ملايين من الأطنان والمتراصة التنظيم في سينديكات الفحم الحجري؛ ثم معامل صهر الفولاذ الضخمة المرتبطة بها ارتباطا وثيقا والتي تنظم في سنديكات الفولاذ. إن هذه المشاريع الهائلة التي تنتج 400 ألف طن من الفولاذ في العام والتي تستخرج كميات هائلة من المعادن والفحم الحجري وتنتج المصنوعات الجاهزة من الفولاذ وتستخدم 10 ألف عامل يعيشون في ثكنات بلدات المعامل والتي تملك في بعض الأحيان سككها الحديدية وموانئها هي الممثل النموذجي لصناعة التعدين الألمانية. ويسير التمركز أبدا إلى الأمام. يتضخم بعض المشاريع: يتراص عدد متزايد من المشاريع فرع صناعي بعينه أو فروع صناعية مختلفة ضمن مشاريع ضخمة تجد سندا لها ومرشدا في نصف دزينة من البنود البرلينية الكبرى. وفيما يخص صناعة الاستخراج الألمانية أقيم البرهان بصورة دقيقة على صحة تعاليم كارل ماركس بصدد التمركز؛ صحيح أن هذا يتعلق ببلاد تحمي صناعتها الرسوم الجمركية الوقائية وتعريفات النقل. إن صناعة الاستخراج الألمانية قد نضجت للمصادرة»(4).
هذا هو الاستنتاج الذي كان لا بد من أن يخلص إليه اقتصادي برجوازي، سليم النية كأمر استثنائي. تجدر الإشارة إلى أنه كأنما يبرز كحالة خاصة، نظرا لأن التعريفات الجمركية المرتفعة تحمي صناعتها. بيد أن كل ما تستطيعه هذا الظرف هو تعجيل التمركز وتشكيل اتحادات أصحاب العمل الاحتكارية، الكارتيلات والسنديكات والخ.. وما هو في منتهى الأهمية واقع أن التمركز في بلاد التجارة الحرة، انجلترا، يفضي كذلك إلى الاحتكار، وإن يكن بصورة أبطأ وربما بشكل آخر. وإليكم ما يقوله البروفيسور هرمن ليفي في مبحث خاص تناول فيه «الاحتكارات والكارتيلات والتروستات» على أساس معلومات عن التطور الاقتصادي في بريطانيا العظمى:
«إن الميل إلى الاحتكار في بريطانيا العظمى، بالضبط، في ضخامة حجم المشاريع وعلو مستواها التكنيكي. فالتمركز قد أفضى، من جهة، إلى أن المشاريع غدت تقتضي إنفاق الرساميل بمبالغ طائلة، ولذا تجد المشاريع الجديدة نفسها إزاء طلبات متزايدة فيما يخص مقدار الرأسمال الضروري، وهذا ما يعيق ظهورها. ومن الجهة الأخرى (ونعتبر هذا الأمر أكبر أهمية) ينبغي على كل مشروع جديد يريد أن يضارع المشاريع الهائلة التي أنشأها التمركز أن ينتج كمية هائلة من المنتوجات الفائضة بحيث لا يمكن بيعها بصورة مفيدة إلاّ في حالة ازدياد الطلب وازديادا خارقا، وفي الحالة المعاكسة يخفض من المنتوجات الأسعار إلى مستوى ليس في مصلحة المعمل الجديد ولا في مصلحة الاتحادات الاحتكارية». وخلافا للبلدان الأخرى التي تسهل فيها التعريفات الجمركية الوقائية تشكل الكارتيلات، لا تنشأ في انجلترا، في أكثرية الحالات، اتحادات أصحاب الأعمال الاحتكارية، الكارتيلات والتروستات، الا عندما ينحصر عدد المشاريع الرئيسية المتنافسة «في دزينتين فقط». «إن تأثير التمركز على نشوء الاحتكارات في الصناعة الضخمة يظهر هنا بصفاء البلور»(5).
لنصف قرن مضى، عندما كتب ماركس مؤلفه «رأس المال» كانت المزاحمة الحرة تبدو «قانونا طبيعيا» في نظر الأكثرية الكبرى من الاقتصاديين. وقد حاول العلم الرسمي أن يقتل عن طريق مؤامرة الصمت مؤلف ماركس الذي برهن بتحليله النظري والتاريخي للرأسمالية على أن المزاحمة الحرة تولد تمركز الإنتاج وعلى أن هذا التمركز يفضي، عند درجة معينة من تطوره، إلى الاحتكار. وقد غدا الاحتكار الآن أمرا واقعا. والاقتصاديون يكتبون أكواما من الكتب واصفين فيها هذه الظاهرة أو تلك من مظاهر الاحتكار ومواصلين الصراخ بنغم واحد: «لقد دحضت الماركسية». ولكن الوقائع أشياء عنيدة كما يقول المثل الانجليزي ولابد للمرء من أن يحسب لها الحساب شاء أم أبى. والوقائع تظهر أن التباين بين مختلف البلدان الرأسمالية من حيث الحماية أو التجارة الحرة مثلا لا ينشأ عنه إلاّ تباين لا شأن له في شكل الاحتكارات أو في زمن نشوئها، في حين أن نشوء الاحتكارات عن تمركز الإنتاج هو القانون العام والأساسي في المرحلة الحديثة من تطور الرأسمالية.
ومن الممكن، بالنسبة لأوروبا، أن يحدد بدقة كبيرة زمن حلول الرأسمالية الحديثة نهائيا محل القديمة. إنه، بالضبط، أوائل القرن العشرين. ونقرأ في مؤلف من أحدث المؤلفات التلخيصية في تاريخ «تشكل الاحتكارات»:
«إن المرحلة السابقة لسنة 1860 تعطي بعض الأمثلة عن الاحتكارات الرأسمالية؛ ومن الممكن أن تكتشف فيها الصور الجنينية للأشكال التي غدت الآن مألوفة تماما، ولكن لا ريب في أن كل ذلك هو بالنسبة للكارتيلات عهد ما قبل التاريخ. إن البداية الحقيقية للإحتكارات الحديثة تقع على أبعد حد في سنوات العقد السابع من القرن التاسع عشر. فالمرحلة الهامة الأولى لتطور الاحتكارات تبتدئ من الانحطاط الصناعي العالمي في العقد الثامن من القرن الماضي وتمتد إلى بداية العقد العاشر». «وإذا بحثنا الأمر على النطاق الأوروبي، وجدنا تطور المزاحمة الحرة قد بلغ أوجه في سنوات العقدين السابع والثامن. ففي ذلك الحين أنجزت انجلترا تنظيمها الرأسمالي على النمط القديم. وفي ألمانيا دخل هذا التنظيم في صراع فاصل مع الصناعتين الحرفية والمنزلية وبدأ ينشئ لنفسه أشكال وجوده».
«لقد بدأ انقلاب كبير منذ أزمة سنة 1873، أو بالأصح، منذ الركود الذي تبعها والذي يملأ 22 سنة من التاريخ الاقتصادي الأوروبي باستثناء انقطاع لا يكاد يلاحظ في مستهل العقد التاسع ونهوض خارق القوة إلاّ أنه قصير وقع سنة 1889». «وفي أثناء مرحلة النهوض القصيرة في سنتي 1889-1890 استخدمت الكارتلات بصورة واسعة للاستفادة من أحوال السوق. إن سياسة غير بصيرة جعلت الأسعار تقفز أسرع وأعلى مما كان حدث في حالة عدم وجود الكارتيلات، وقد هلك معظم هذه الكارتيلات بصورة مزرية في «قبر الانهيار». لقد تلت ذلك خمس سنوات أخرى من الأحوال السيئة والأسعار المنخفضة، بيد أن الحالة النفسية لم تعد ذاتها في الصناعة. فالركود لم يعد ليعتبر أمرا بديهيا، إذ لم يعودوا يرون فيه إلاّ وقفة قبل أحوال جديدة ملائمة.
وها قد دخلت حركة تشكيل الكارتيلات عهدها الثاني. فبعد أن كانت الكارتيلات ظاهرة عرضية، أخذت تصبح أساسا من أسس الحياة الاقتصادية بأكملها. وهي تكتسب فرعا من فروع الصناعة بعد آخر وفي الدرجة الأولى فرع تكييف المواد الخام. وفي مستهل سنوات العقد العاشر وضعت الكارتيلات، بتنظيمها لسينديكا الكوك التي نظمت على طرازها فيما بعد سينديكا الفحم، آلية لتنظيم الكارتيلات لم تمض أبعد منها في الجوهر. أن النهضة الكبيرة في نهاية القرن التاسع عشر وأزمة سنوات 1900-1903 قد جرتا لأول مرة وبصورة تامة تحت شارة الكارتيلات، على الأقل في صناعتي الاستخراج والتعدين. وإذا كان قد غدا الآن في نظر الرأي العام الواسع أمرا بديهيا أن رفعت أهم أقسام الحياة الاقتصادية، كقاعدة عامة، من المزاحمة الحرة فإن ذلك قد بدا آنئذ كشيء جديد»(6).
إن النتائج الأساسية لتاريخ الاحتكارات هي، إذن، الآتية: 1) سنوات العقد السابع والثامن من القرن الماضي هي قمة، ذروة تطور المزاحمة الحرة. لم تكن الاحتكارات غير أجنة بالكاد تلاحظ. 2) بعد أزمة سنة 1873 جاءت مرحلة نادرة ولم تكن وطيدة بعد. إنها ما تزال ظاهرة عرضية. 3) نهضة أواخر القرن التاسع عشر وأزمة سنوات 1900-1903: تصبح الكارتيلات أساسا من أسس الحياة الاقتصادية بأكلها. تحولت الرأسمالية إلى إمبريالية.
تتفق الكارتيلات فيما بينها على شروط المبيع وآجال الدفع وغير ذلك. وهي تقتسم مناطق التصريف، وهي تحدد كمية المنتوجات وهي تعين الأسعار، وهي توزع الأرباح بين مختلف المشاريع وهلم جرا.
لقد بلغ عدد الكارتيلات في ألمانيا على وجه التقريب 250 في سنة 1896 و385 في سنة 1905 تضم حوالي 12 ألف مؤسسة(7). ولكن الجميع يعترفون بأن حتى الـ12 ألف من المشاريع الضخمة تملك وحدها، على ما يبدو، أكثر من نصف مجموع كمية الطاقة البخارية والكهربائية. وقدّر عدد التروستات في الولايات المتحدة بأمريكا الشمالية بـ175 في سنة 1900 وبـ250 في سنة 1907. وتقسم الإحصاءات الأمريكية جميع المشاريع الصناعية إلى ملك لأفراد أو لشركات أو لاتحادات. وكانت هذه الأخيرة تملك في سنة 1904 70.6% وفي سنة 1909 25.9%، أي أكثر من ربع مجموع عدد المشاريع. وكانت تستخدم من العمال في سنة 1904 70.6% وفي سنة 1909 75.6%، أي ثلاثة أرباع المجموع؛ وكانت قيمة إنتاجها في السنتين المذكورتين 10.9 مليار دولار و16.3 مليار دولار، أي 73.7 % و79.0% من المبلغ الإجمالي.
وغالبا ما تتركز في أيدي الكارتيلات والتروستات سبعة أو ثمانية أعشار مجموع الإنتاج في فرع من فروع الصناعة. فسينديكا فحم إقليم الرين-فيستفاليا كانت، عندما تشكلت في سنة 1893، تركز في يدها 86.7% من مجموع إنتاج الفحم في الإقليم، أما في سنة 1910 فقد غدت تركز 95.4%(
. والاحتكار الذي يتكون على هذه الصورة يؤمن المداخيل الطائلة ويؤدي إلى تشكيل وحدات إنتاجية تكنيكية هائلة الحجم. إن تروست النفط الشهير (Standad Oil Company) في الولايات المتحدة قد تأسس في سنة 1900. «وقد بلغ رأسماله 150 مليون دولار. وأصدرت الأسهم العادية بمبلغ 100 مليون والأسهم الممتازة بمبلغ 106 مليون. ودفع لهذه الأخيرة من العائدات في سنوات 1900-1907: 48%، 48%، 45%، 44%، 36%، 40%، 40%، 40%، أي ما مجموعه 367 مليون دولار. ومن سنة 1882 إلى سنة 1907 بلغ الربح الصافي 889 مليون دولار وزع منها على حملة الأسهم 7.7 ملايين وسجل الباقي رأسمالا احتياطيا»(9). «وفي سنة 1907 كان في جميع معامل تروست الفولاذ (United Stats Steel Corporation) ما لا يقل عن 210180 من العمال والمستخدمين. وفي سنة 1908 كان أكبر مشروع في صناعة الاستخراج الألمانية، شركة مناجم غيلسنكيرخين يستخدم 46048 من العمال والمستخدمين»(10). وفي سنة 1902، كان تروست الفولاذ ينتج 9 ملايين طن من الفولاذ(11). وبلغ ما أنتجه من الفولاذ 66.3% في سنة 1901 و56.1% في سنة 1908 من مجموع إنتاج الفولاذ في الولايات المتحدة(12)، وما استخرجه من المعادن في السنتين المذكورتين 43.9% و46.3%.
لقد جاء في تقرير اللجنة الحكومية الأمريكية عن التروستات: «إن تفوقها على المزاحمين يستند إلى ضخامة حجم مشاريعها وإلى تجهيزها التكنيكي الممتاز. فتروست التبغ قد بذل كل جهوده منذ تأسيسه ليحل العمل الآلي محل العمل اليدوي في نطاق واسع وفي جميع الميادين. وقد اشترى لهذا الغرض جميع براءات اختراع التي لها أية علاقة بتحضير التبغ وأنفق على ذلك مبالغ طائلة. وتبين أن الكثير من هذه الاختراعات كان في بادئ الأمر غير صالح وتأتى على المهندسين المستخدمين في التروست ضبطها. وفي أواخر سنة 1906 أنشئت شركتان فرعيتان هدفهما الوحيد شراء براءات الاختراع. وللعرض ذاته أنشأ التروست مصانع الصهر ومصانع الماكينات وورشات التصليح. وإحدى هذه المؤسسات، في بروكلين، تستخدم 300 عامل بالمتوسط، وفيها تجري تجربة الاختراعات وتحسينها لصنع السجائر والنوع الصغير من السيكار والنشوق وأوراق القصدير للف والعلب وغير ذلك(13)». «والتروستات الأخرى تستخدم كذلك ما يسمى (المهندس لتطوير التكنيك)؛ ومهمتهم إيجاد أساليب جديدة للإنتاج وتجربة التحسينات التكنيكية. ويدفع تروست الفولاذ لمهندسيه وعماله جوائز عالية لقاء كل اختراع يحسن التكنيك أو يخفض التكاليف»(14).
وعلى النمط نفسه نظمت قضية التحسينات التكنيكية في الصناعة الألمانية الكبيرة، مثلا في الصناعة الكيميائية التي تطورت بصورة هائلة خلال عشرات السنين الأخيرة. فإن تمركز الإنتاج قد أنشأ في هذه الصناعة نحو سنة 1908 «فريقين» رئيسيين جنحا كذلك، على طريقتهما، إلى الاحتكار. ففي بادئ الأمر، كان هذان الفريقان «تحالفين مزدوجين» بين زوجين من أضخم المعامل رأسمال كل منهما من 20-21 مليون مارك: من جهة معامل مايستر السابق في هوخست وكاسيله في فرانكفورت على الماين؛ ومن الجهة الأخرى معمل الأنيلين والصودا في لودفيغسهافن ومعمل باير السابق في إيلبيرفيلد. ثم، في سنة 1905، عقد أحد الفريقين وفي سنة 1908 عقد الفريق الآخر، كل على انفراد، اتفاقا مع معمل كبير آخر. فكانت النتيجة ظهور «تحالفين ثلاثيين» رأسمال كل منهما من 40-50 مليون مارك فبدأ بين هذين «التحالفين» «التقارب» و«التفاهم» حول الأسعار وغير ذلك(15).
المزاحمة تتحول إلى احتكار. وينتج عن ذلك تقدم هائل في اتخاذ الإنتاج صبغة اجتماعية، بما في ذلك أيضا ميدان الاختراعات والتحسينات التكنيكية.
إنه حال يختلف كل الاختلاف عن المزاحمة الحرة القديمة بين أصحاب أعمال مبعثرين لا يعلم أحدهم شيئا عن أحوال الآخر وينتجون للتصريف في سوق مجهولة. لقد بلغ التمركز حدا غدا معه في الإمكان إجراء جرد تقريبي لجميع مصادر الخامات (مثلا مصادر معدن الحديد) في بلاد معينة أو حتى، كما سنرى، في جملة من البلدان وفي العالم بأسره. ولا يقتصر الأمر على إجراء هذا الجرد، بل وتضع اتحادات احتكارية هائلة أيديها على هذه المصادر وتستولي عليها. ويجري حساب تقريبي لاستيعاب الأسواق التي «تقسمها» هذه الاتحادات فيما بينها على أساس العقود. تحتكر الأيدي العاملة المدربة وتستأجر نخبة المهندسين ويستولي على طرق ووسائط المواصلات – السكك الحديدية في أمريكا، شركات البواخر في أوروبا وأمريكا. فالرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية توصل رأسا إلى إعطاء الإنتاج صبغة اجتماعية شاملة، وهي تجر الرأسماليين، إن أمكن القول، رغم إرادتهم وإدراكهم، إلى نظام اجتماعي جديد، انتقالي من حرية المزاحمة التامة إلى الاصطباغ التام بالصبغة الاجتماعية.
يغدو الإنتاج اجتماعيا، ولكن التملك يبقى خاصا. تظل وسائل الإنتاج الاجتماعية ملكا خاصا لعدد ضئيل من الأفراد. يبقى الإطار العام للمزاحمة الحرة المعترف بها شكليا، ويغدو ظلم حفنة الاحتكاريين لبقية السكان أثقل وأشد بمائة مرة.
لقد كرس الاقتصاد الألماني كستنر مؤلفا خاصا لموضوع «الصراع بين الكارتيلات والدخلاء»، أي أصحاب الأعمال غير المنتظمين للكارتلات. وقد أسمى هذا الكتاب «الإجبار على التنظيم»، في حين كان ينبغي الحديث عن الإجبار على الخضوع لاتحادات الإحتكاريين، وذلك طبعا لكيلا تطلى الرأسمالية بالمساحيق. ومن المفيد أن نلقي نظرة ولو على قائمة الوسائل التي تلجأ إليها اتحادات الاحتكاريين في الصراع الراهن، الحديث، المتمدن، من أجل «التنظيم»: 1) الحرمان من المواد الخام («…طريقة من أهم طرق الإجبار على الانضمام إلى الكارتيل»)؛ 2) الحرمان من الأيدي العاملة عن طريق «الائتلافات» (أي العقود بين الرأسماليين ونقابات العمال بشأن عدم قبول هذه الأخيرة العمل إلاّ في المشاريع المنظمة إلى الكارتيلات)؛ 3) الحرمان من وسائط النقل؛ 4) الحرمان من أسواق التصريف؛ 5) عقود مع الشارين بشأن عدم إقامة العلاقات التجارية إلاّ مع الكارتيلات وحدها؛ 6) تخفيض الأسعار بصورة منظمة (ليفلس «الدخلاء»، أي المشاريع غير الخاضعة للاحتكاريين؛ تنفق الملايين للبيع بأقل من التكاليف خلال زمن معين: فقد حدثت فترات خفضت فيها الأسعار في صناعة البنزين من 40 إلى 22 ماركا، أي نحو النصف! 7) الحرمان من التسليف؛
إعلان المقاطعة.