إن ما نراه ليس بصراع بالمزاحمة بين مشاريع صغيرة وكبيرة، متأخرة التكنيك وراقية التكنيك. إن ما نراه هو خنق الاحتكاريين للذين لا يخضعون للاحتكارات ولظلمها وعسفها. وإليكم صورة انعكاس هذه العملية في ذهن اقتصادي برجوازي:
كتب كستنر: «وحتى في ميدان النشاط الاقتصادي الصرف يجري بعض التحول من النشاط التجاري بمعنى الكلمة السابق إلى نشاط المضاربة التنظيمي. ومن يحرز النجاح الأكبر ليس التاجر الذي تتيح له خبرته الفنية والتجارية أن يحرز على خير وجه حاجات المشترين، أن يجد وأن «يكتشف»، إن أمكن القول، الطلب الموجود في حالة خفية، بل العبقري في المضاربة (؟!) القادر على أن يحسب مقدما أو، على الأقل، أن يحس تطور التنظيم والصلات المحتملة بين هذه أو تلك من المشاريع أو البنوك…».
ومعنى ذلك إذا ترجم إلى لغة الناس أن تطور الرأسمالية قد بلغ حدا تقوض فيه الإنتاج البضاعي فعلا وإن كان ما زال «سائدا» كالسابق وما زال يعتبر أساسا للاقتصاد كله، وتصبح فيه الأرباح الرئيسية من نصيب «عباقرة» الملاعيب المالية. وتقوم هذه الملاعيب والاحتيالات على أساس اكتساب الإنتاج للصفة الاجتماعية، ولكن تقدم البشرية الهائل التي توصلت بعملها إلى حد اكتساب الإنتاج للصفة الاجتماعية يصبح مفيدا… للمضاربين. وسنرى فيما يأتي كيف أن نقاد الإمبريالية الرأسمالية من صغار البرجوازيين الرجعيين يحملون «على هذا الأساس» بالعودة إلى الوراء، إلى المزاحمة «الحرة»، «السلمية»، «الشريفة».
يقول كستنر: «إن ارتفاع الأسعار مدة طويلة كنتيجة لتشكل الكارتيلات لم يلاحظ حتى الآن إلاّ فيما يخص أهم وسائل الإنتاج، ولاسيما الفحم الحجري والحديد والقلى، وبالعكس، لم يلاحظ أبدا فيما يخص المنتوجات الجاهزة. والارتفاع في العائدات الناشئ عن ذلك قد اقتصر أيضا على صناعة وسائل الإنتاج. وينبغي أن نضيف إلى هذه الملاحظة أن صناعة تكييف المواد الخام (لا المصنوعات نصف الجاهزة)، عدا أنها تجني – بفضل تشكل الكارتيلات – الفوائد بشكل أرباح مرتفعة لما فيه خسارة الصناعة المشغولة بإكمال المصنوعات نصف الجاهزة، قد اكتسب حيال هذه الصناعة نوعا من السيطرة لم يكن لها وجود في زمن المزاحمة الحرة»(16).
إن الكلمات التي أشرنا إليها تبين كنه القضية الذي لا يعترف به الاقتصاديون البرجوازيون إلاّ نادرا وبغير رغبة والذي يسعى إلى تجنبه وإهماله جهد طاقتهم المدافعون الحاليون عن الانتهازية وعلى رأسهم كارل كاوتسكي. فعلاقات السيطرة والقسر الناجم عنها هو ما يميز «المرحلة الحديثة في تطور الرأسمالية»، هو ما كان لا بد أن ينتج وما نتج فعلا عن تشكل الاحتكارات الاقتصادية الكلية القدرة.
لنذكر مثلا آخر عن سيطرة الكارتيلات. إن نشوء الكارتيلات وتشكل الاحتكارات هو أمر في غاية السهولة حيث يمكن الاستيلاء على جميع مصادر الخامات أو على القسم الرئيسي من هذه المصادر. ولكن من الخطأ الظن أن الاحتكارات لا تنشأ كذلك في الفروع الصناعية الأخرى التي لا يمكن فيها الاستيلاء على مصادر الخامات. فصناعة الأسمنت تجد الخامات في كل مكان. بيد أن الكارتيلات قد اتحدت المعامل في سينديكات اقليمية: سينديكات جنوب ألمانيا وسينديكات إقليمي الرين-فيستفاليا والخ.. والأسعار هي أسعار الاحتكارات: 230-280 ماركا قيمة عربة القطار في حين أن تكاليفها 180 ماركا! وتعطي المشاريع 12-16% لحملة الأسهم؛ ولكن لا ينبغي أن ننسى أن «عباقرة» المضاربة العصرية يحسنون توجيه مبالغ من الأرباح إلى جيوبهم فضلا عما يوزع على حملة الأسهم. وبغية إزاحة المزاحمة من صناعة تدر مثل هذه الأرباح لا يحجم الاحتكاريون حتى عن الأحابيل: ينشرون إشاعات كاذبة عن سوء الحال في الصناعة، ينشرون في الصحف إعلانات مغفلة: «أيها الرأسماليون! حذار أن توظفوا رؤوس أموالكم في صناعة الأسمنت»، وأخيرا يشترون معامل «الدخلاء» (أي غير المنضمين إلى السينديكات)، ويدفعون لهم «خلوّا» 60-70-150 ألف مارك(17). يشق الاحتكار طريقه في كل مكان وبكل الوسائل، ابتداء من دفع الخلوّ «المتواضع» وانتهاء «بتطبيق» الطريقة الأمريكية لنسف المزاحم بالديناميت.
أمّا قضاء الكارتيلات على الأزمات فهو قصة اختلقها الاقتصاديون البرجوازيون الذين يسعون وراء طلي الرأسمالية بالمساحيق مهما كلف الأمر. بالعكس، إن الاحتكار، عندما ينشأ في بعض الفروع الصناعية، يشدد ويزيد الفوضى التي تلازم الإنتاج الرأسمالي بأكمله. فعدم التناسب بين تطور الزراعة والصناعة، الأمر المميز للرأسمالية بوجه عام، يزداد لدرجة أكبر. إذ أن الوضع الممتاز الذي تجد فيه نفسها الصناعة الأكثر تنظيما في الكارتيلات، ما يسمى بالصناعة الثقيلة، ولاسيما صناعة الفحم والحديد، يفضي، في الفروع الصناعية الأخرى، إلى «انعدام المنهاجية لدرجة أشد» كما يعترف ييدلس الذي وضع كتابا من أحسن الكتب عن «العلاقات بين البنوك الألمانية الكبرى والصناعة»(18).
وقد كتب ليفمن، المدافع عن الرأسمالية دون حياء: «كلما كان الاقتصاد الوطني أكثر تطورا، كلما اتجه نحو المشاريع التي تنطوي على المجازفة أو الموجودة في الخارج، نحو المشاريع التي تحتاج لتطورها زمنا طويلا أو، أخيرا، نحو تلك التي لا يتعدى أهميتها النطاق المحلي»(19). إن ازدياد المجازفة ينشأ في نهاية الأمر عن ازدياد الرأسمال ازديادا هائلا فيفيض، إن أمكن القول، ويتدفق إلى الخارج والخ.. ثم إن تنامي التكنيك بسرعة متزايدة يسفر عن مزيد ومزيد من عناصر عدم التناسب بين مختلف نواحي الاقتصاد الوطني، ومن الفوضى والأزمات. وقد اضطر ليفمن ذاته إلى الاعتراف قائلا: «ربما كان على البشرية أن تواجه مرة أخرى في المستقبل القريب انقلابات كبيرة في حقل التكنيك سيكون لها تأثيرها كذلك على التنظيم الاقتصادي الوطني»… الكهرباء، الطيران…«وفي المعتاد وكقاعدة عامة تشتد المضاربة بقوة في أزمنة التغيرات الاقتصادية الجذرية…»(20).
والأزمات بأنواعها – الاقتصادية في الأغلب، ولكن ليست اقتصادية وحدها – تشدد بدورها، في نطاق واسع، الميل إلى التمركز وإلى الاحتكار. وهاكم أراء ييدلس بليغة الدلالة عن أهمية أزمة سنة 1900، الأزمة التي كانت، كما نعلم، نقطة تحول في تاريخ الاحتكارات الحديثة:
«وحين تفجرت أزمة 1900 كان هناك، إلى جانب المشاريع الهائلة في الفروع الصناعية الرئيسية، عدد كبير من المشاريع ذات التنظيم المتأخر حسب المفهوم الحالي، مشاريع «ساده»» (أي غير المركبة) «رفعتها إلى أعلى موجة النهضة الصناعية. فهبوط الأسعار وانخفاض الطلب قد ساقا هذه المشاريع «الساده» إلى حال من الشدة لم تمس المشاريع الهائلة المركبة بتاتا أو مستها لفترة قصيرة جدا. وبنتيجة ذلك أدت أزمة سنة1900 إلى التمركز الصناعي بمقاييس أكبر جدا من أجمة سنة 1873: فهذه الأخيرة قامت أيضا بنوع من الاصطفاء لأحسن المشاريع، ولكن هذا الاصطفاء لم يمكنه، مع مستوى التكنيك في ذلك العهد، ان يسفر عن احتكار تلك المشاريع التي خرجت من الأزمة ظافرة، وهذا الاحتكار المديد والمتطور جدا هو بالضبط ما تملكه – بفضل تكنيكها المعقد منتهى التعقيد وتنظيمها الدقيق للغاية وقوة رأسمالها – المشاريع الهائلة في صناعتي الحديد والكهرباء الراهنتين ثم، لدرجة أقل، مشاريع صناعة بناء الماكينات وبعض فروع صناعة التعدين وطرق المواصلات وغير ذلك»(21).
الاحتكار هو آخر كلمة لـ«أحدث المراحل في تطور الرأسمالية». ولكن تصورنا لمدى قوة وأهمية الاحتكارات الحديثة يكون غير واف أبدا وغير تام، ومنقوصا إن لم نأخذ بعين الاعتبار دور البنوك..
--------------------------------------------------------------------------------
(1) الأرقام منAnnalen des deutschen Reichs, 1911 Zahn (المجلة السنوية للدولة الألمانية، سنة 1911، تسان. الناشر
(2) Statistical Abstract Of the United States 1912, p202(مجموعة إحصاءات الولايات المتحدة لسنة 1912، ص 202. الناشر)
(3) «الرأسمال المالي»، الترجمة الروسية، ص ص 286-287.
(4) Hans Gideon Heymann. «Die gemischten Werke im deutschen Grobeisengewerbe». Stuttgart, 1904 (SS. 256, 278-279)(هانس غيديون هيمان. «المشاريع المختلطة في صناعة التعدين الألمانية الضخمة». شتوتغارت، سنة 1904 (ص ص 256، 278-279). الناشر
(5) Hermann Levy «Monopole, Kartelle und Trusts». Jena 1909, » SS. 286, 290, 298.. (هرمن ليفي. «الاحتكارات والكارتيلات والتروستات». يينا، سنة 1909، ص ص 286، 297. الناشر)
(6) Te Vogelstein. «Die finanzielle Organisation der Kapitalistischen Industrie und die Monopolbildungen» «Grundrib der Sozialökonomik» في VI Abt., 1914 (ت. فوغلشتين. «التنظيم المالي للصناعة الرأسمالية وتشكل الاحتكارات» في «أسس الاقتصاد الاجتماعي». الفصل السادس، توبتغين، 1914. الناشر.) قارنوا الكتاب للمؤلف نفسه: «Organisationsformen der Eienindustrie und Textilindustrie in England und Amerika» Bd. I, Lpz, 1910الأشكال التنظيمية لصناعتي التعدين والنسيج في انجلترا وأمريكا. المجلد الأول، ليبزيغ، 1910. الناشر).
(7) Dr. Riesser «Die deutschen Grobbanken und ihre Konzentrtion im Zusammenhange mit der Entwicklung der Gesamtwirtschaft in Deutschland». 4 Aufl., 1912, S. 149. R. Liefmann/ «Kartelle und Trusts und die Weiterbildung der volkswirtechaftlichen Organisation». 2. Aufl. 1910, S. 25الدكتور ريسر. «البنوك الألمانية الكبيرة وتمركزها بالاتصال مع التطور الاقتصادي العام في ألمانيا». الطبعة الرابعة، سنة 1912، ص 149. – ر. ليفمن. «الكارتيلات والتروستات واطراد تطور تنظيم الاقتصاد الوطني». الطبعة الثانية، سنة 1910، ص 25. الناشر)
(
Dr Fritz Kestner. «Der Organisatonszwang. Eine Untersuchung über die Kämpfe zwischen Kartellen und Aubenseitern». Brl., 1912 ص 11 (الدكتور فريتس كستنر. «القسر على التنظيم. دراسة عن الصراع بين الكارتيلات والدخلاء» برلين. الناشر)
(9) R. Liefmann/ «Beteiligungs-und Finanzierungsgesellschaften. Eine Studie über den modernen Kapitalismus und das Effektenwesen». I. Aufl. , Jena, 1909 ص 212 (ر. ليفمن. «شركات الاشتراك والتمويل. دراسة عن الرأسمالية الحديثة وعن دور الأوراق المالية». الطبعة الأولى، يينا. الناشر)
(10) المصدر نفسه، ص 218.
(11) Dr. S/ Tschierschky. «Kartell und Trust». Gött., 1903 ص 13 (الدكتور س. تشيرشكي. «الكارتيل والتروست». غوتينغين. الناشر.).
(12) Th. Vogelstein. «Organisatiosformen، ص 275 (ت. فوغيلشتاين «الاشكال التنظيمية»، ص 275 الناشر).
(13) Report of the Commissioner of Corporation on the Tobacco Industry. Washington, 1909ص 226 (تقرير عضو اللجنة حول الاتحادات في صناعة التبغ. 1909 واشنطن. الناشر). وقد اقتبست الفقرة عن كتاب Dr. Paul Tafel/ «Die nordamerikanschen Trusts und ihre Wirkungen auf den Fortschritt der Technik». Stuttgart, 1913 ص 48 (الدكتور بول تافيلا. «التروستات في أمريكا الشمالية وتأثيرها على تطور التكنيك». شتوتغارت. الناشر).
(14) المصدر نفسه ص ص 48-49.
(15) Rieser ، الكتاب المذكور، ص 547 وما يليها، الطبعة الثالثة. وتفيد الصحف (يونيو 1916) عن إنشاء تروست جديد هائل الضخامة يوحد الصناعة الكيماوية الألمانية.
(16) كستنر. الكتاب المذكور. ص 254
(17) «Zement» von L. Eschwege. «Die Bank», 1909,1 ص 115 وما يليها («الأسمنت» ل. ايشفيغه. مجلة «البنك». الناشر).
(18) Jeidels/ «Das verhältnis der deutschen Grobanken zur Industrie mit besonderer Berücksichtigung der Eisenindustrie». Lpz. , 1905، ص 271 (ييدلس. «العلاقات بين البنوك الألمانية الكبرى والصناعة ولاسيما صناعة التعدين» ليبزغ. الناشر).
(19) ليفمن… ص 434.
(20) ليفمن… ص ص 465-466
(21) Jeidels ، ص 108
الفصل الثاني
البنوك ودورها الجديد
إن وظيفة البنوك الأساسية وأولى هي الوساطة في الدفع. وأثناء ذلك تحول البنوك الرأسمال النقدي غير العامل إلى رأسمال عامل، أي إلى رأسمال يدر الأرباح، وتجمع العائدات النقدية بشتى أنواعها وتضعها تحت تصرف طبقة الرأسماليين.
ومع تطور الشؤون البنكية وتمركزها في مؤسسات قليلة العدد، تتحول البنوك من وسطاء متواضعين إلى احتكارات شديدة الحول والطول تتصرف بمعظم الرأسمال النقدي العائد لمجموع الرأسماليين وصغار أصحاب الأعمال وكذلك بالقسم الأكبر من وسائل الإنتاج ومصادر الخامات في بلاد معينة أو في جملة من البلدان. وتحول الوسطاء الكثيرين المتواضعين إلى حفنة من الاحتكاريين هو وجه أساسي من وجوه صيرورة الرأسمالية إلى امبريالية رأسمالية، ولذا ينبغي لنا أن نتناول في المقام الأول تمركز البنوك.
وفي سنة 1907-1908 كانت الودائع في جميع البنوك الألمانية المساهمة التي يزيد رأسمال كل منها من 1 مليون مارك تبلغ 7 مليارات مارك؛ وفي سنة 1912-1913 بلغت الودائع 9.8 مليار مارك. لقد بلغت الزيادة خلال خمس سنوات 2.8 مليار، أي 40%؛ منها 2.75 مليار مودعة في 57 بنكا رأسمال كل منها 10 ملايين مارك. وكان توزيع الودائع بين البنوك الكبيرة والصغيرة على الصورة الآتية(1):
الودائع بالنسبة المئوية
في البنوك البرلينية التسعة الكبرى في البنوك الـ 48 الأخرى التي يزيد رأسمال كل منها على 10 ملايين مارك في 115 بنكا يبلغ رأسمال كل منها من 1 مليون و10 ملايين مارك في البنوك الصغيرة (رأسمال كل منها أقل من 1 مليون مارك)
سنة 1907-1908
47 32.5 16.5 4
سنة 1912-1913
39 36 12 3
البنوك الصغيرة أزيحت من قبل البنوك الكبرى التي تركز تسعة منها فقط نحو نصف مجموع الودائع. ولكن أشياء كثيرة لم تؤخذ هنا بعين الاعتبار، منها مثلا تحول حملة من البنوك الصغيرة في الواقع إلى فروع للبنوك الكبرى وغير ذلك، الأمر الذي سنتحدث عنه فيما يأتي:
في أواخر سنة 1913 قدر شولتزه-غيفيرنيتز الودائع في البنوك البرلينية التسعة الكبرى بـ 5.1 مليار مارك من مجموع مبلغ من 10 مليارات. وقد كتب المؤلف نفسه آخذا بعين الاعتبار مجموع الرأسمال البنكي، لا الودائع وحدها: «في أواخر سنة 1909، كانت البنوك البرلينية التسعة الكبرى، مع البنوك المرتبطة بها، تدير 11.3 مليار مارك، أي نحو 83% من مجموع ملاغ الرأسمال البنكي في ألمانيا. «فالبنك الألماني» («Deutche Bank») الذي يدير مع البنوك المرتبطة به مبلغا يقرب من 3 مليارات مارك هو، إلى جانب الإدارة البروسية لسكك حديد الدولة، عبارة عن التراكم الأكبر والأقل مركزية للرأسمال في العالم القديم(2).
لقد أشرنا إلى كلمة البنوك «المرتبطة»، لان ذلك يتعلق بخاصة من أهم الخواص المميزة للتمركز الرأسمالي الحديث. فالمشاريع الكبرى، ولاسيما البنوك، لا تبتلع الصغيرة بصورة مباشرة وحسب، بل «تربط»ـها بنفسها وتخضعها وتضمها إلى «مجموعتـ»ـها، إلى «كونسرنـ»ـها حسب التعبير الفني، وذلك عن طريق «الاشتراك» في رأسمالها، عن طريق شراء أو تبادل الأسهم، عن طريق نظام القروض وهلم جرا وغير ذلك. لقد كرس البروفيسور ليفمن «مؤلفا» ضخما بلغ خمسمائة صفحة لوصف «شركات الاشتراك والتمويل» الحديثة(3)، ولكنه، للأسف، يضيف محاججات «نظرية» هزيلة إلى مواد لم يحسن تدبيرها في الأغلب. ومؤلف «البنكير» ريسر عن البنوك الألمانية الكبرى يبين أحسن من أي مؤلف آخر النتيجة التي تسفر عنها طريقة «الإشتراك» هذه من وجهة نظر التمركز. ولكن قبل أن ننتقل لبحث معطياته نذكر مثلا عمليا عن طريقة «الاشتراك».
«مجموعة» « البنك الألماني» هي من أكبر مجموعات البنوك الكبرى إن لم تكن أكبرها. ولكيما نتبين الخيوط الرئيسية التي تربط جميع بنوك هذه المجموعة ينبغي أن نميز «اشتراك» الدرجات الأولى والثانية والثالثة أو، وهو الأمر نفسه، التبعية (البنوك الأصغر «للبنك الألماني») من الدرجات الأولى والثانية والثالثة. ونحصل على الصورة التالية(4):
تبعية الدرجة الأولى تبعية الدرجة الثانية تبعية الدرجة الثالثة
«البنك الألماني» يشترك بصورة دائمة في 17 بنكا منها 9 تشترك في 34 بنكا آخر منها 4 تشترك في 8 بنوك أخرى
بصورة مؤقتة في 5 بنوك - -
من وقت لآخر في 8 بنوك منها 5 تشترك في 14 بنكا آخر منها 2 تشترك في 2 بنكا آخر
المجموع في 30 بنكا منها 14 تشترك في 48 بنكا آخر منها 6 تشترك في 9 بنكا آخر
في العدد الـ8 بنوك «من تبعية الدرجة الأولى» التي تخضع «للبنك الألماني» «من وقت لآخر» ثلاثة بنوك أجنبية: إحدها نمساوي («الاتحاد البنكي» في فيينا «Bankverein») وإثنان روسيان (البنك التجاري السيبيري والبنك الروسي للتجارة الخارجية). ومجموعة «البنك الألماني» تضم مباشرة وغير مباشرة، كليا وجزئيا 17 بنكا؛ ومجمل الرأسمال الذي تتصرف به مجموعة «البنك الألماني» – رأسمالها الخاص والودائع – يقدر بـ 2-3 مليارات مارك.
ومن الواضح أن بنكا يرأس مجموعة كهذه ويعقد اتفاقات مع نصف دزينة من البنوك الأخرى، لا تقل عنه في قوتها إلاّ قليلا، من أجل العمليات المالية الكبيرة جدا والمفيدة للغاية كمنح القروض للدولة، قد شب عن دور «الوسيط» وغدا اتحادا لحفنة من الاحتكاريين.
إن الأرقام التالية التي ننقلها باختصار عن ريسر تظهر بأية سرعة جرى تمركز البنوك في ألمانيا بالضبط في أواخر القرن 19 وبداية القرن 20:
لدى ستة من البنوك البرلينية الكبرى
سنوات فروع في ألمانيا صناديق ودائع ومكاتب صرفية اشتراك دائم في البنوك المساهمة الألمانية مجموع المستندات
1895 16 14 1 42
1900 21 40 8 80
1911 104 276 63 450
وهكذا نرى كيف تتسع بسرعة شبكة القنوات الكثيفة شاملة البلاد من أقصاها إلى أقصاها ومركزة جميع الرساميل والمداخيل النقدية وجاعلة من الألوف المؤلفة من المشاريع المبعثرة اقتصادا رأسماليا وطنيا موحدا ثم اقتصادا رأسماليا عالميا. أمّا «عدم التمركز» الذي تحدث عنه باسم الاقتصاد السياسي البرجوازي في أيامنا شولتزه-غيفيرنيتز في الفقرة المثبتة أعلاه فهو يتلخص في الواقع بأنه يخضع لمركز واحد عدد متزايد من الوحدات الاقتصادية التي كانت فيما مضى «مستقلة» نسبيا أو، بالأصح، ذات طابع محلي بحت. ومعنى ذلك في الواقع أن هنالك تمركزا وارتفاعا لشأن الاحتكارات العملاقة ولأهميتها وبأسها.
و«شبكة البنوك» هذه هي أكثر كثافة أيضا في البلدان الرأسمالية الأقدم. ففي إنجلترا مع ارلنده بلغت فروع جميع البنوك في سنة 1910- 7151. وكان لدى كل بنك من البنوك الأربعة الكبرى أكثر من 400 فرع (من 447 إلى 689)، وكانت هناك 4 بنوك أخرى لدى كل منها أكثر من 300، و 11 بنكا لدى كل منها أكثر من 100 فرع.
وفي فرنسا طورت البنوك الكبرى الثلاثة، «Crédit Lyonnais» («كريدي ليونيه»)، «Comptoir National» («كونتوار ناسيونال») و«Société Générale» («سوسييتي جينرال»)(5) عملياتها وشبكة فروعها على الشكل التالي(6):
أعوام عدد الفروع والصناديق الرأسمال
في المقاطعات في باريس المجموع الخاص الودائع
(بملايين الفرنكات)
1870 48 17 64 200 427
1890 192 66 258 200 427
1909 1033 196 1229 260 1245
ولوصف «روابط» البنك الكبير الحديث يذكر ريسر أرقاما عن عدد الرسائل التي وجهتها وتلقتها «شركة الخصم» («Disconto-gesellschaft») وهي بنك من أكبر البنوك في ألمانيا وفي العالم كله (لقد بلغ رأسمالها في سنة 1914- 300 مليون مارك):
عدد الرسائل
أعوام الواردة الصادرة
1852 6130 6292
1870 85800 87513
1900 533102 626043
وفي البنك الباريسي الكبير «كريدي ليونيه» ارتفع عدد الحسابات الجارية من 28535 في سنة 1875 إلى 633539 في سنة 1912 (7).
نحسب أن هذه الأرقام البسيطة تظهر بصورة أوضح من الشروح المسهبة كيف تتبدل أهمية البنوك بشكل جذري مع تمركز الرأسمال وتزايد عملياتها. فمن الرأسماليين المبعثرين يتكون رأسمالي واحد مشترك. وإذ يقوم البنك بالحسابات الجارية لعدد من الرأسماليين يبدو وكأنه يقوم بعملية تكنيكية بحتة، بعملية مساعدة لا غير. ولكن عندما تبلغ هذه العملية مقاييس هائلة تكون النتيجة أن حفنة من الاحتكاريين تخضع لنفسها العمليات التجارية والصناعية في المجتمع الرأسمالي كله، إذ تتوفر لها – بفضل الصلات بين البنوك وعن طريق الحسابات الجارية والعمليات المالية الأخرى – الإمكانية لتعرف في أي بادئ الأمر على وجه الدقة حالة الأعمال لدى كل رأسمالي على حدة ثم للإشراف عليهم والتأثير عليهم عن طريق توسيع أو تضييق، تسهيل أو تصعيب التسليف، وأخيرا لتقرر بصورة تامة مصائرهم، لتحدد مداخليهم، لتحرمهم من الرأسمال أو لتمكنهم من تضخيم رساميلهم بسرعة وبمقادير هائلة، الخ.
ذكرنا الآن أن رأسمال «شركة الخصم» في برلين يبلغ 300 مليون مارك. وهذا الإزدياد لرأسمال «شركة الخصم» كان حادثا من حوادث الصراع من أجل السيطرة بين بنكين من أكبر البنوك البرلينية هما «البنك الألماني» و«شركة الخصم». ففي سنة 1870 كان الأول مبتدئا لم يزد رأسماله عن 15 مليونا وبلغ رأسمال الثاني 30 مليونا. وفي سنة 1908 بلغ رأسمال الأول 200 مليون ورأسمال الثاني 170 مليونا. وفي سنة 1914 رفع الأول رأسماله إلى 250 مليونا ورفع الثاني رأسماله عن طريق الإندماج ببنك كبير آخر من الدرجة الأولى «بنك شافهاوزن الاتحادي» إلى 300 مليون. وغني عن البيان أن هذا الصراع من أجل السيطرة يجري بمحاداة «الاتفاقات» المتوافرة المتوطدة بين البنكين. وهاكم الاستنتاجات التي يوحيها مجرى هذا التطور للاختصاصيين في الشؤون البنكية الذين يعالجون الأمور الاقتصادية من وجهة نظر لا تتعدى بحال حدود الإصلاحية البرجوازية الأكثر اعتدالا والأكثر كياسة:
كتبت المجلة الألمانية «البنك» بشأن ازدياد رأسمال «شركة الخصم» إلى 300 مليون قائلة: «ستنخرط البنوك الأخرى في الطريق نفسه، ومن الـ300 شخص الذين يديرون ألمانيا اقتصاديا في الوقت الحاضر لن يبقى مع مر الزمن إلاّ 50 أو 25 أو أقل من ذلك. ولا يصح أن ننتظر أن تقتصر حركة التمركز الجديدة على ميدان البنوك وحده. فالروابط الوثيقة القائمة بين بعض البنوك تؤدي بطبيعة الحال إلى التقارب بين سينديكات الصناعيين التي تتمتع بحماية هذه البنوك… سنستيقظ في صباح ما فيدهشنا أن لا نرى أمام عيوننا إلاّ التروستات وحدها؛ وسنرى أنفسنا أمام ضرورة الاستعاضة عن الاحتكارات الخاصة باحتكار حكومة. ومع ذلك فليس هنالك في الجوهر ما نلون أنفسنا عليه، اللهم إلاّ تركنا الحبل على الغارب أمام مجريات الأمور، التي زادت الأسهم قليلا من سرعتها»(
.
إنه مثل على عجز الصحافة البرجوازية التي لا يمتاز عنها العلم البرجوازي إلاّ بكونه أقل إخلاصا وبنوعيه إلى طمس جوهر الأمر وإلى تغطية الغابة ببعض شجرات. «استغراب» نتائج التمركز؛ «لوم» حكومة ألمانيا الرأسمالية أو «المجتمع» الرأسمالي («نحن»)؛ الخوف من أن «يعجل» إدخال الأسهم التمركز، كما يخاف أحد الألمان الاختصاصيين بـ«الكارتيلات»، تشيرشكي، من التروستات الأمريكية و«يفضل» الكارتيلات الألمانية لأنها لا تستطيع على ما يزعم، «أن تعجل لهذا الحد الخارق، كالتروستات، سير التقدم التكنيكي والاقتصادي»(9)، – أفليس هذا هو العجز؟
بيد أن الأمر الواقع هو الأمر الواقع. ليس في ألمانيا تروستات، ففيها الكارتيلات «فقط»؛ ولكن ألمانيا يديرها ما لا يزيد عن 300 من طواغيت الرأسمال. ويتضاءل عدد هؤلاء باستمرار. أمّا البنوك فهي، في جميع الحالات وفي جميع البلدان الرأسمالية ومهما تنوع التشريع البنكي الذي تخضع له، تقوي وتعجل لحد كبير سير تمركز الرأسمال وتشكل الاحتكارات.
لقد كتب ماركس منذ نصف قرن في مؤلفه «رأس المال» أن «البنوك تنشئ على النطاق الاجتماعي شكلا، وشكلا فقط، لا غير، للمحاسبة العامة والتوزيع العام لوسائل الإنتاج» (الترجمة الروسية، المجلد 3، الجزء2، ص 144). إن ما ذكرناه من معطيات عن تزايد الرأسمال البنكي وعن تزايد عدد مكاتب وفروع البنوك الكبرى وعدد حساباتها الجارية وغير ذلك يبين لنا بصورة جلية هذه «المحاسبة العامة» لطبقة الرأسماليين جميعها، وحتى غير الرأسماليين لأن البنوك تجمع، ولو لوقت ما، مختلف أنواع المداخيل النقدية العائدة لصغار أصحاب الأعمال والموظفين والمرتبة العليا الضئيلة من العمال. «التوزيع العام لوسائل الإنتاج» هو ما ينجم، من ناحية الأمر الشكلية، عن البنوك الحديثة التي تتصرف، في شخص ثلاثة أو ستة بنوك ضخمة في فرنسا وستة أو ثمانية في ألمانيا، بالمليارات العديدة. ولكن هذا التوزيع لوسائل الانتاج ليس/ من حيث مضمونه، «بعام» فقط، بل هو خاص، أي أنه يتم وفق مصالح الرأسمال الضخم، وفي الدرجة الأولى الرأسمال الأضخم، الإحتكاري، الذي يعمل في ظروف يقاسي فيها جمهور السكان شظف العيش ويتأخر فيها تطور الزراعة برمته تأخرا يدعو للقنوط عن تطور الصناعة، بينما يتقاضى فرع واحد منها، «الصناعة الثقيلة»، الجزية من سائر فروعها الأخرى.
وفي أمر صبغ الاقتصاد الرأسمالي بالصبغة الاجتماعية بدات تنافس البنوك صناديق التوفير ودوائر البريد، وهو «أبعد عن المركزية»، أي أنها تشمل في دائرة نفوذها عددا أكبر من المناطق، عددا أكبر من الزوايا النائية، وفئات أوسع من السكان. إن لجنة أمريكية قد جمعت الأرقام التالية التي تظهر بالمقارنة مجرى تزايد الودائع في البنوك وفي صناديق التوفير(10):
الودائع (بمليارات الماركات)
إنجلترا فرنسا ألمانيا
في البنوك في صناديق التوفير في البنوك في صناديق التوفير في البنوك في شركات التسليف في صناديق التوفير
1880 8.4 1.6 ؟ 0.9 0.5 0.4 2.6
1888 12.4 2.0 1.5 2.1 1.1 0.4 4.5
1908 23.2 4.2 3.7 4.2 8.1 2.2 13.9
إن صناديق التوفير التي تدفع للودائع 4% أو 4.25% مضطرة للبحث عن فرص لتوظيف رأسمالها بصورة «رابحة» وللاندفاع إلى عمليات شراء وبيع الكمبيلات والرهون وغير ذلك. «تمحى شيئا فشيئا» الحدود بين البنوك وصناديق التوفير. وتطلب الغرف التجارية في بوخوم وارفورت مثلا «منع» صناديق التوفير من مزاولة العمليات البنكية «الصرف» كخصم الكمبيلات، وتطلب تقييد النشاط «البنكي» لدوائر البريد(11). ويبدو أن ملوك البنوك يخشون من أن يترصد لهم احتكار الدولة حيث لا ينظرونه. ولكن من البديهي أن هذا الخوف لا يتعدى، إن أمكن القول، حدود المنافسة بين مديري قسمين من أقسام مؤسسة بعينها. ذلك لأن طواغيت الرأسمال البنكي هم في الواقع الذين يتصرفون في نهاية الأمر بالمليارات من الرساميل المودعة في صناديق التوفير، هذا من جهة؛ ولأن احتكار الدولة في المجتمع الرأسمالي ليس، من الجهة الأخرى، إلاّ وسيلة لزيادة وتوطيد مداخيل أصحاب الملايين الموشكين على الإفلاس في هذا أو ذاك من الفروع الصناعية.
إن حلول الرأسمالية الجديدة التي يسيطر فيها الاحتكار محل القديمة التي تسيطر فيها المزاحمة الحرة يتجلى فيما يتجلى في انحطاط أهمية البورصة. فقد كتبت مجلة «البنك»: «إن البورصة قد كفت من أمد بعيد عن أن تكون الوسيط الذي لا يستغني عنه في التداول كما كانت فيما مضى، قبل أن يصبح بإمكان البنوك أن توزع بين زبائنها القسم الأكبر من الأوراق المالية الصادرة»(12).
««كل بنك - بورصة». إن هذه العبارة التي جرت مجرى الأمثال في الزمن الحديث تتضمن من الحقيقة قدرا يغدو أكبر بمقدار تضخم البنك وبمقدار ما يحوز التمركز نجاحات أكبر في ميدان النشاط البنكي»(13). «وإذا كانت البورصة فيما مضى، في السبعينات، مع ما كانت تتصف به من نزق الشباب» (تلميح «ناعم» إلى إفلاس البورصة في سنة 1873 وإلى فضائح غروندير وغير ذلك) «قد فتحت عهد تصنيع ألمانيا، فقد إذا بإمكان البنوك والصناعة في الوقت الحاضر أن «تنهض بالأمر وحدها». فسيطرة بنوكنا الكبرى على البورصة… ليس إلاّ تعبيرا عن الدولة الصناعية الألمانية المنظمة أكمل تنظيم. وإذا كان نطاق تأثير القوانين الاقتصادية النافذة أوتوماتيكيا يتقلص بهذا الشكل ويتسع، لحد خارق، نطاق الضبط الواعي من خلال البنوك، فبنتيجة ذلك تزداد لدرجة كبرى مسؤولية العدد القليل من القواد على الإقتصاد الوطني» – هذا ما كتبه البروفيسور الألماني شولتزه –غيفيرنيتز(14) المدافع عن الإمبريالية الألمانية والذي يعتبر شخصا نافذ الكلمة عند الامبرياليين في جميع البلدان ويسعى إلى طمس «أمر تافه» هو أن هذا «الضبط الواعي» من خلال البنوك يتلخص في نهب الجمهور من قبل حفنة من الاحتكاريين «المنظمين أكمل تنظيم». فإن مهمة البروفيسور البرجوازي ليست في كشف أحابيل الاحتكاريين أصحاب البنوك ولا فضح احتيالاتهم، بل في تجميلها.
وكذلك ريسر، الاقتصادي و«البنكير» الأبعد صيتا، يكتفي بعبارات فارغة بصدد وقائع يستحيل انكارها: «تفقد البورصة أكثر فأكثر خاصيتها التي لا غنى عنها مطلقا للاقتصاد كله ولتداول الأوراق المالية، وهي كونها المقياس الأكثر دقة، وكذلك ضابطا للحركات الاقتصادية المتجهة نحوها، يعمل بصورة أوتوماتيكية تقريبا»(15).
وبعبارة أخرى: إن الرأسمالية القديمة، رأسمالية المزاحمة الحرة مع ضابطها الذي لا يمكنها الاستغناء عنه، البورصة، تغيب في طيات الماضي. تحل محلها رأسمالية جديدة تتسم بسمات انتقالية بينة، بسمات مزيج من المزاحمة الحرة والاحتكار. وهنا يخطر عفوا على البال السؤال التالي: ألامَ «تنتقل» هذه الرأسمالية الحديثة؟ ولكن العلماء البرجوازيين يخافون من طرح هذا السؤال.
«منذ ثلاثين سنة كان أصحاب الأعمال المتزاحمون بحرية يقومون بتسعة أعشار الجهد الاقتصادي الخارج عن نطاق عمل «العمال» الجسدي. وفي الوقت الحاضر يقوم الموظفون بتسعة أعشار هذا الجهد الفكري في الاقتصاد. والنشاط البنكي يتقدم هذا التطور»(16) إن هذا الإعتراف من شولتزه-غيفيرنيتز يسوقنا مرة أخرى إلى السؤال عمَّا تنتقل إليه الرأسمالية الحديثة، الرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية.
بين العدد الضئيل من البنوك التي تبقى في رأس الاقتصاد الرأسمالي بأكمله بحكم سير التمركز يظهر بصورة طبيعية ويشتد أكثر فأكثر الميل إلى الاتفاق الاحتكاري، إلى تروست بين البنوك. ليس في أمريكا تسعة بنوك، بل بنكان من أكبر البنوك عائدان لصاحبي المليارات روكفلر ومورغان، يسيطرون على رأسمال مقداره 11 مليار مارك(17). لقد أشرنا فيما تقدم إلى ابتلاع «شركة الخصم» «لبنك شافهاوزن الإتحادي» في ألمانيا. وقد أعطت جريدة «فرانكفورت زايتونغ» المعبرة عن مصالح البورصة لهذا الأمر التقدير التالي:
«مع اشتداد تمركز البنوك تتقلص دائرة المؤسسات التي يمكن بوجه عام أن تطلب منها القروض، وبحكم ذلك تشتد تبعية الصناعة الكبيرة لعدد ضئيل من المجموعات البنوك. وفي ظل الصلة الوثقى القائمة بين الصناعة وعالم رجال المال تقيد حرية حركة الشركات الصناعية المحتاجة لرأسمال البنوك. ولهذا تنظر الصناعة الكبيرة إلى اشتداد تكتل البنوك في التروستات (انضمام أو تحول إلى تروستات) بمشاعر مختلطة؛ الواقع أنه قد لوحظت مرارا بوادر إتفاقات معينة بين هذه أو تلك من اتحادات البنوك الكبرى، اتفاقات هدفها تقييد المزاحمة»(18).
وها نحن نرى مرة أخرى أن الكلمة الأخيرة في تطور النشاط البنكي هي الاحتكار.
أمّا بخصوص الصلة الوثقى القائمة بين البنوك والصناعة، ففي هذا الميدان بالضبط يبدو دور البنوك الجديدة ربما بأجلى شكل. فإذا كان البنك يقوم بخصم كمبيلات هذا الصناعي أو ذاك ويفتح له حسابا جاريا الخ.، فإن هذه العمليات مأخوذة على حدة لا تحد من استقلال هذا الصناعي قيد أنملة ولا يتعدى البنك دوره كوسيط متواضع. ولكن عندما تكثر هذه العمليات وتتوطد، وعندما «يجمع» البنك بين يديه مقادير هائلة من الرساميل وعندما يكون القيام بعمليات الحساب الجاري لهذا المشروع يمكن البنك من أن يعرف – وهذا ما يحدث في المعتاد – بصورة أدق وأكمل حالة الزبون الاقتصادية، تكون النتيجة خضوع الرأسمالي الصناعي للبنك خضوعا أكثر فأكثر.
وإلى جانب ذلك يتطور، إن أمكن القول، الاتحاد الشخصي بين البنوك والمشاريع الصناعية والتجارية الكبرى واندماج هذه وتلك عن طريق تملك الأسهم، عن طريق دخول مدراء البنوك في عضوية مجالس مراقبة (أو مجالس إدارة) المشاريع الصناعية والتجارية، وبالعكس. لقد جمع الاقتصادي الألماني ييدلس معلومات مفصلة عن هذا الشكل من تمركز المشاريع. فثمة ستة بنوك برلينين كبرى كانت ممثلة بواسطة مدرائها في 344 شركة صناعية وبواسطة أعضاء مجالس إدارتها في 407 شركات أخرى، أي في 751 شركة بالمجموع. وكان لها في 289 من هذه الشركات إمّا عضوان في مجالس المراقبة أو منصب الرئاسة في هذه المجالس. وبين هذه الشركات الصناعية التجارية نصادف مختلف فروع الصناعة والتأمين وطرق المواصلات والمطاعم والمسارح وصناعة المنتوجات الفنية وغير ذلك. ومن الجهة الأخرى وجد (في سنة 1910) في مجلس مراقبة هذه البنوك الستة نفسها 51 من كبار الصناعيين منهم مدير شركة كروب، ومدير شركة البواخر الهائلة «Hapag» (Hamburg-Amerika) (19) وهلم جرا والخ.. ومن سنة 1895 إلى سنة 1910 اشترك كل من هذه البنوك الستة في اصدار الأسهم والسندات لمئات عديدة من الشركات الصناعية، أي من 281 إلى 419 شركة(20).
«الإتحاد الشخصي» بين البنوك والصناعة يكتمل بـ«الاتحاد الشخصي» بين هذه وتلك والحكومة. فقد كتب ييدلس: «يقدمون المقاعد في مجالس المراقبة عن طيبة خاطر للشخصيات ذات الأسماء الطنانة وكذلك للموظفين سابقا في جهاز الدولة الذين يمكنهم أن يسهلوا (!!) لدرجة كبيرة العلاقات مع السلطات»… «ففي مجلس مراقبة بنك كبير نجد في المعتاد أحد النواب أو أحد أعضاء مجلس بلدية برلين».
إن رسم وتكوين الاحتكارات الكبيرة الرساميل، إذا أمكن القول، يجريان اذن على قدم وساق وبكل الطرق «الطبيعية» و«الخارقة». ويتم بصروة منتظمة نوع من تقسيم للعمل بين عدة مئات من ملوك المال في المجتمع الرأسمالي الحديث:
«إلى جانب هذا الاتساع لميدان نشاط البعض من كبار الصناعيين» (الذين يدخلون في مجالس إدارة البنوك وغير ذلك) «ووضع منطقة صناعية معينة واحدة فقط تحت إشراف مدراء فروع البنوك في المناطق يحدث شيئا فشيئا التخصص بين مدراء البنوك الكبرى. وهذا التخصص أمر غير ممكن إلاّ في حالة ضخامة المؤسسة البنكية على العموم وسعة نطاق علاقاتها بالصناعة على الخصوص. ويجري تقسيم العمل هذا في اتجاهين: من جهة تعهد جميع العلاقات بالصناعة لأحد المدراء لتكون ميدانه الخاص، ومن الجهة الأخرى يأخذ كل مدير على نفسه مراقبة هذا المشروع أو ذاك أم مجموعة من المشاريع المتشابهة من حيث المهنة أو المصلحة»… (لقد بلغت الرأسمالية درجة المراقبة المنظمة على مختلف المشاريع)… «اختصاص هذا المدير هو الصناعة الألمانية وأحيانا صناعة ألمانيا الغربية وحدها» (ألمانيا الغربية هي من وجهة نظر الصناعة القسم الأكثر تطورا في ألمانيا)، «ويتخصص الآخرون بالعلاقات مع الدول الصناعية الأجنبية وبجمع المعلومات عن شخصيات الصناعيين والخ.، وبقضايا البورصة وهلم جرا. وفضلا عن ذلك غالبا ما يكلف كل مدير من مدراء البنك بشؤون منطقة معينة أو فرع صناعي معين؛ فيعمل أحدهم بصورة رئيسية في مجالس مراقبة شركات الكهرباء وآخر في المعامل الكيميائية، أو في معامل الجعة أو معامل السكر، ويعمل ثالث في المشاريع القليلة المنعزلة وإلى جانب ذلك في مجالس مراقبة شركات التأمين… وباختصار، لا ريب في أنه بمقدار اتساع العمليات وتنوعها يتسع في البنوك الكبرى تقسيم العمل بين المدراء بقصد (وعلى أن تكون النتيجة) رفعهم قليلا ما، إن أمكن القول، إلى ما فوق مستوى الشؤون البنكية الصرف، بقصد جعلهم أهلا لتفهم مجريات الأمور وأكثر تضلعا في المسائل الصناعية العامة وفي المسائل الخاصة بكل فرع من فروع الصناعة ولأعدادهم للعمل في منطقة نفوذ البنك الصناعية. نظام البنوك هذا يكتمل بميلها إلى أن ينتخب لمجلس مراقبتها أناس ذوو خبرة واسعة في الشؤون الصناعية وصناعيون وموظفون سابقون ولاسيما أولئك الذين خدموا في إدارات السكك الحديدية والمناجم» وهلم جرا(21).
ونجد في الميدان البنكي في فرنسا مؤسسات من ذات النوع مع اختلاف جد يسير. «فالكريدي ليونيه»، مثلا، أحد البنوك الفرنسية الثلاثة الكبرى، قد نظم لديه «إدارة خاصة لجمع المعلومات المالية» (service des études financières) ويعمل في هذه الإدارة بصورة دائمة أكثر من خمسين شخصا من المهندسين والخبراء في الاحصاء والاقتصاديين والحقوقيين الخ.. وتكلف هذه الإدارة من 600 إلى 700 ألف فرنك في السنة. وتنقسم هذه الإدارة بدورها إلى ثمانية أقسام: قسم مختص بجمع المعلومات عن المشاريع الصناعية ويدرس القسم الآخر الاحصاءات العامة ويدرس القسم الثالث شركات السكك الحديدية والبواخر والرابع الأرصدة والخامس التقارير المالية والخ(22).
وتكون النتيجة، من جهة، اندماج متزايد، أو كما أحسن التعبير بوخارين، اقتران الرأسمال البنكي والصناعي؛ ومن الجهة الأخرى، صيرورة البنوك إلى مؤسسات ذات «طابع شامل» حقا. ونرى من الضروري أن نورد بالنص عبارات ييدلس حول هذه المسألة، وهو الكاتب الذي درس المسألة أحسن من الآخرين:
«بنتيجة دراسة العلاقات الصناعية بمجموعها نقرر أن المؤسسات المالية التي تعمل للصناعة هي ذات طابع شامل. فعلى نقيض الأشكال الأخرى للبنوك، على نقيض المطالب التي تصاغ أحيانا في المطبوعات والقائلة بأنه ينبغي على البنوك أن تتخصص في ميدان معين أو فرع صناعي معين لكيلا تفقد الأرض تحت قدميها، – تسعى البنوك الكبرى وراء جعل علاقاتها مع المشاريع الصناعية متنوعة إلى أقصى حد ممكن من حيث الأماكن والإنتاج، تسعى وراء إزالة عدم التناسب في توزيع الرساميل بين مختلف المناطق أو الفروع الصناعية، عدم التناسب الذي يجد تفسيره في تاريخ مختلف المشاريع». «هناك اتجاه يتلخص في جعل هذه العلاقات بالصناعة ظاهرة عامة؛ واتجاه آخر يتلخص في جعل هذه العلاقات وطيدة وفعالة؛ وقد طبق الاتجاهان في البنوك الستة الكبرى، إن لم يكن بصورة كاملة، ففي نطاق واسع وبدرجة واحدة».
غالبا ما تشكو الأوساط الصناعية والتجارية من «إرهاب» البنوك. وهل من مجال لاستغراب هذه الشكاوى إذا كانت البنوك الكبرى «تتحكم» كما يظهر المثال التالي: في 19 نوفمبر سنة 1901 وجه أحد البنوك البرلينية المسمات «د» (أسماء البنوك الأربعة الكبرى تبدأ بحرف د) إلى مجلس إدارة سينديكا الأسمنت في وسط وشمال غرب ألمانيا الرسالة التالية: «يتضح من النبأ الذي نشر تموه في الثامن عشر من الشهر الجاري في الجريدة الفلانية أن علينا أن نأخذ بالحسبان أنه يحتمل أنكم ستتخذون في الجمعية العمومية التي ستعقدها سينديكاتكم في الثلاثين من الشهر الجاري قرارات يمكنها أن تحدث في مشروعكم تغييرات لا يسعنا قبولها. ولذلك فنحن، مع مزيد أسفنا، مضطرون إلى قطع الاعتماد الذي فتحناه لكم… ولكن إذا لم تتخذ في هذه الجمعية العمومية قرارات لا يسعنا قبولهل وإذا قدمت لنا الضمانات المناسبة حول هذا الشأن فيما يخص المستقبل فنحن نعرب عن استعدادنا للشروع في مداولات بقصد فتح اعتماد جديد لكم»(23).
إنها في جوهر الأمر عين شكاوى الرأسمال الصغير من ظلم الرأسمال الكبير، ولكن في هذه الحالة وقع في فئة «الصغار» سينديكا برمته! إن الصراع القديم بين الرأسمال الصغير والرأسمال الكبير يستأنف في درجة من التطور جديدة، أعلى جدا. ومن المفهوم أن مؤسسات البنوك الكبرى التي تتصرف بالمليارات يمكنها كذلك أن تدفع إلى الأمام تقدم التكنيك بوسائل لا يمكن أن تقارن بوجه مع الوسائل السابقة. فالبنوك تؤسس، مثلا، جمعيات خاصة للأبحاث التكنيكية لا تنتفع بنتائج دراساتها إلاّ المشاريع الصناعية «الصديقة» طبعا. ومن هذه الجمعيات «جمعية دراسة مسألة السكك الحديدية الكهربائية» و«المكتب المركزي للأبحاث العلمية والتكنيكية» وهلم جرا.
ولا ريب في أن المشرفين على البنوك الكبرى أنفسهم يرون أن ظروفا جديدة للاقتصاد الوطني آخذة في التكوين؛ ولكنهم عاجزون إزاءها.
يقول ييدلس: «إن من تتبع أثناء السنوات الأخيرة تبدل الأشخاص في مناصب المدراء وأعضاء مجالس المراقبة في البنوك الكبرى لا يمكنه ألاّ يرى انتقال السلطة بالتدريج إلى أيدي أشخاص يعتبرون التدخل النشيط في التطور الصناعي العام مهمة الزامية من مهام البنوك الكبرى تغدو ملحة أكثر فأكثر، علما بأن ذلك هو مبعث التباعد بين هؤلاء الأشخاص ومدراء البنوك القدماء على الصعيد العملي وغالبا على الصعيد الشخصي أيضا. والقضية هي، في الجوهر، قضية ما إذا كانت البنوك، بوصفها مؤسسات تسليف، لا تتضرر من تدخل البنوك هذا في مجرى الإنتاج الصناعي، وما إذا كانت لا تضحي بالمبادئ الوطيدةوالأرباح الأكيدة من أجل نشاط لا يجمعه جامع بدورها كوسيط في التسليف ويدفع البنوك إلى صعيد تكون فيه أكثر من السابق خاضعة لتقلبات الأحوال الصناعية العمياء. هذا ما يقوله الكثيرون من مدراء البنوك القدماء؛ أمّا أكثر المدراء الشباب فيعتبرون التدخل النشيط في المسائل الصناعية لا يختلف عن الضرورة التي نشأت عنها البنوك الكبرى والمشاريع الصناعية البنكية الحديثة في وقت واحد مع الصناعة الضخمة الحديثة. ويتحقق الجانبان حول نقطة واحدة هي عدم وجود أية مبادئ وطيدة أو هدف معين لنشاط البنوك الكبرى الجديد»(24).
انقضى عهد الرأسمالية القديمة. والجديدة هي انتقال إلى جديد ما. أمّا البحث عن «مبادئ وطيدة وهدف معين» «للتوفيق» بين الاحتكارات والمزاحمة الحرة فهو باطل طبعا. فاعترافات أصحاب الخبرة لا تشبه بوجه المديح الذي يكيله لفضائل الرأسمالية «المنظمة» المدافعون الرسميون عنها من أمثال شولتزه-غيفيرنيتز وليفمن ومن لف لفهم من «النظريين».
في أي زمن بالضبط توطد بصورة نهائية «النشاط الجديد» للبنوك الكبرى؟ نجد لدى ييدلس الجواب الدقيق لحد ما على هذا السؤال الهام:
«العلاقات بين المشاريع الصناعية بمضمونها الجديد وأشكالها الجديدة وهيئاتها الجديدة أي البنوك الكبرى المنظمة في وقت معاً على الطريقة المركزية واللامركزية، لم تتكون قطعا كظاهرة مميزة للاقتصاد الوطني قبل سنوات العقد العاشر من القرن الماضي، وبالإمكان بمعنى معين تأخير نقطة البدء هذه إلى سنة 1897 لما حدث فيها من «اندماجات» كبرى بين المشاريع ادخلت لأول مرة الشكل الجديد للتنظيم اللامركزي لأسباب تتعلق بالسياسة الصناعية التي تمارسها البنوك. ولعل الانضباط أن ندفع نقطة البدء هذه إلى تاريخ أقرب، لأن أزمة سنة 1900 قد زادت بصورة هائلة من سير التمركز ووطدت هذا السير سواء في الصناعة أو في البنوك محولة لأول مرة الصلات بالصناعة إلى احتكار حقيقي للبنوك الكبرى وجاعلة هذه الصلات أوثق وأقوى جدا»(25).
إذن، إن القرن العشرين هو نقطة التحول من الرأسمالية القديمة إلى الحديثة، من سيطرة الرأسمال بوجه عام إلى سيطرة الرأسمال المالي.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) (الفريد لانسبورغ. «نشاط البنوك الألمانية في خمس سنوات»، مجاة «البنك» ر8 سنة 1913 ص 728. الناشر
(2) Schltze-Gaevernitz. «Die deutsche Kreditbenk» في «Grudrib der Sozialökonomik». Tüb. , 1905 ص ص 12،137 (شولتزه غيفيرنيتز. «بنك التسليف الألماني» في «أسس الاقتصاد الاجتماعي». تيوبينغين. الناشر).
(3) R. Liefmann/ «Beteiligungs-und Finanzierungsgesellschaften. Eine Studie über den modernen Kapitalismus und das Effektenwesen». I. Aufl., 1909. - ، ص 212.
(4) Alfred Lansburgh. «Beteiligungssystem im deutschen Bankwesen», «die Bank», 1910, 1 ، ص 500 (الفرد لانسبورغ. «طريقة الاشتراك في أعمال البنوك الألمانية»، مجلة «البنك». الناشر).
(5) «شركة التسليف الليونية»، «دائرة الخصم الوطنية» و«الشركة العامة». الناشر.